من أهم التبدلات المهمة المثيرة المتوقعة التي أحدثها مقتل قاسم سليماني في داخل جبهة النظام الإيراني، وبالتحديد في أعقاب الضربة الإيرانية الانتقامية الفاشلة، هو اختفاء العنجهية والمكابرة من لغة قادة النظام الإيراني العسكريين والمدنيين، وتوقفُهم عن إطلاق الصواريخ الكلامية المجلجلة التي كانوا لا يتوقفون فيها عن الحديث عن انتصارات إمبراطوريتهم الفارسية العائدة بعد غيابٍ طويل، وعن حدودها الجديدة الممتدة من شواطئ الخليج العربي وخليج هرمز، إلى شواطئ البحر المتوسط والبحر الأحمر وخليج عمان، وعاصمتُها بغداد.
فالظاهر أنهم فهموا رسالة الرئيس الأميركي دونالد ترامب النارية القاتلة وقرروا اعتبار صواريخهم العمياء غير الذكية على معسكر أربيل وعين الأسد في الأنبار آخر عهدهم بالجعجعة الفارغة، وآخر تهديداتهم بالثأر لدماء القتيل، بعد أن كانوا، إلى ما قبل يوم الجمعة الماضي بساعات، يتسابقون إلى المباهاة والتهديد بجبروت فصائل الحشد الشعبي العراقي، وقوة سلاح حسن نصرالله، وشبّيحة بشار الأسد، وكتائب الحوثيين، ومقاومة خالد مشعل وإسماعيل هنية، والتي يؤكدون فيها أنها أذرعهم المسلحة الضاربة المتأهبة للزحف المقدس لمحو إسرائيل، وهزيمة أميركا، وطردها لا من العراق وسوريا وحسب، بل من الشرق الأوسط، ومن العالم كله، عن قريب.
وهذا هو ديدن كل حاكم غبيّ لا يعرف حدّه ولا يقف عنده إلا بعد أن تهبط على رأسه عصا غليظة تفقده النطق وتصيبه بالذهول. فحين يغضب الله على أحدٍ، سواء كان شخصا أو حزبا أو نظام حكم، يصيبه بلوثة جنون العظمة، ويُدخل في عقله وقلبه الغطرسة وغرور القوة، لتحلّ عليه اللعنة في النهاية، ثم يبدأ مسيرة السقوط.
ويبدو أن الحكام الإيرانيين الذين أصابتهم تلك اللوثة قد أفاقوا، ولو متأخرا، على الحقيقة الموجعة، وفهموا أن زمن التهويش ونفش الريش قد انتهى وإلى غير رجعة.
وها هم يلفلفون شعاراتهم، صدقا أو تقيةً، ويلبسون ثياب العقلانية والرغبة في السلام والمهادنة، بعد أن كانوا لا يتوقفون عن المفاخرة بأن إيران، على عهدهم، أصبحت قوة عظمى تملك القدرة على معاركة الكبار والصغار، وعلى الانتصار، ولا يكفّون عن اعتداءاتهم وتحرشاتهم وابتزازاتهم وإهاناتهم لدول وشعوب في المنطقة والعالم، هازئين بالعدالة والأعراف الدولية وحقوق الإنسان، حتى جاءتهم صواريخ ترامب لتقول لهم إن زمن المهادنة والملاطفة والمسامحة قد انتهى، وحل محله زمن القوة الضاربة المباغتة وزمن أصحابها الأقوياء.
مناسبة هذا الكلام ليس فقط انكشاف هشاشة النظام الإيراني وتعاسة صواريخه التي كان قد هدد بأنها ستكون مزلزلة، وستعيد الجنود الأميركيين في توابيت إلى بلادهم، بل هو اعترافُه بعجزه عن مواجهة كل هذه الجبهة الواسعة من أعدائه المحيطين به، والمتربصين بأذرعه التي أثبتت أنها لا تهش ولا تنش، عندما يجدّ الجدّ وتحين ساعة الحساب العسير.
فقد ثبت أنه أصدر تعليمات سرية عاجلة لقادة ميليشياته في العراق ولبنان بضرورة توخي الحيطة والحذر، وبالتبرؤ من كل اعتداء سابق على أي مؤسسة أو معسكر لذلك العدوّ المبين، أميركا، وبإعلان التوبة عن القتل والاختطاف والاغتيال، وبالاختباء والتخفّي عن عيون الرقباء.
وتنفيذا لتك الأوامر سارعت عصائب قيس الخزعلي إلى إعلان براءتها من الهجوم على السفارة الأميركية في بغداد. فقد أعلن القيادي في العصائب، جواد الطليباوي، في تصريح نقلته وكالة الأنباء العراقية الرسمية، أنّ “الحديث عن استهداف الحشد للمنطقة الخضراء كلام عارٍ عن الصحة وغير دقيق”. مؤكدا أن “الحشد ليس لديه أي عمليات عسكرية ضد السفارة الأميركية أو غيرها من التواجد العسكري الأجنبي”. ثم هاجم من قام بقصف المنطقة الخضراء بالصواريخ، مؤكدا أنه قد يكون “تصرفا انفعاليا وفرديا، أو أنه محاولة من بعض الجهات لتشويه سمعة الحشد وخلط الأوراق”.
ولكن مايك بنس نائب الرئيس الأميركي صرح قائلا “إننا لا نزال نتلقى معلومات عن تراجع إيران، لكننا سنبقى متيقظين تنفيذا لتوجيهات الرئيس”.
وحتى مقتدى الصدر الذي كان إلى ما قبل مقتل سليماني الأكثر سخونةً وحماسة لطرد القوات الأميركية من العراق، والأشد تهديدا باللجوء إلى “وسائل أخرى” لمقاتلة الأميركان، تراجع هو الآخر عن بياناته الثورية الساخنة السابقة، وأعلن أن “أزمة العراق قد انتهت”، داعيا أشقاءه في الحشد الشعبي وفصائل المقاومة “إلى التأنّي والصبر وعدم البدء بالعمل العسكري”.
والأغرب من الغريب أن كتائب حزب الله العراقي، الأكثر دموية واندفاعا في ممارسة الطعن بالسكاكين، والخنق بقنابل الغاز السام، والقتل والاغتيال، والتي نفذت الهجوم على المعسكر الأميركي في كركوك الذي تسبب بمقتل متعاقد أميركي، والذي أعقبه الرد الأميركي بالصواريخ على معسكراته ومقرات قيادته في الأنبار وسوريا، ثم اغتيال قاسم سليماني، ثم الرد الإيراني بالصواريخ العمياء غير الذكية، توصي “مجاهديها”، قائلة “في خضم هذه الظروف لا بد من تجنّب الانفعالات لتحقيق أفضل النتائج المرجوة، وفي مقدمتها طرد العدو الأميركي”.
ولعل هذا كله ما جعل الرئيس الأميركي ترامب يعلن أن “كل شيء على ما يرام”. أجل فهذا هو المطلوب.
فهو قد اكتفى بجرة الأذن القوية لخامنئي، وبالصفعة المدوِّخة لوكلائه في العراق، وبالترحيل الآمن للمواجهة العسكرية الضرورية الواجبة مع الملالي في طهران إلى ما بعد الانتخابات الأميركية القادمة، وبالإحراج البيّن الذي أوقع فيه خصومه الديمقراطيين، وبالارتفاع المفاجئ في شعبيته في الشارع الانتخابي. وقد صار في إمكانه الآن أن يتفرغ لمعركته الانتخابية بلا وجع رأس.