ترافق الانهيار المالي والاقتصادي مع انطلاق ثورة شعبية رفعت شعار «كلن يعني كلن» في صورة رمزية إلى انّ الطبقة السياسية الحاكمة، ومن ضمنها المالية والاقتصادية، جعلت من الدولة اللبنانية دولة فاشلة، الأمر الذي يستدعي الاستغناء عن خدماتها، لأنه يتعذّر الكلام عن إصلاح في ظل أكثرية حاكمة يتراوح تقييمها بين إمّا فاسدة وإمّا فاشلة. وبالتالي، لا جدوى من أوراق إصلاحية او خطوات تقنية ما لم يصر إلى تغيير شامل يفضي إلى أكثرية جديدة تمسك بمفاصل المؤسسات وتعيد الاعتبار للدولة.
وشاءت المصادفات ان يكون تشرين الأول مؤسساً لمرحلتين: مرحلة ١٣ تشرين ١٩٩٠ التي بَنت مزرعة لا دولة وأوصلت لبنان إلى الإفلاس المالي والانهيار الأخلاقي والقيمي، ومرحلة ١٧ تشرين الأول التي تقود لبنان رويداً رويداً نحو دولة فعلية ترتكز على الدستور والقانون والمؤسسات والشفافية.
والمطروح على بساط البحث لا يتعلق بالدستور الذي يجب الحفاظ عليه والتمسك به، إنما المطروح تغيير النهج المتّبع في إدارة الدولة، وهذا التغيير لا يمكن ان يتحقق سوى عن طريق كفّ يد الأكثرية الحاكمة التي يستحيل الوصول إلى دولة فعلية في ظل تَحَكّمها بمفاصل القرار، لا بل هناك من يقول انّ محاولات الترقيع مع هذه الأكثرية بمثابة الخطيئة والجريمة بحق لبنان واللبنانيين، لأنه في حالات من هذا النوع لا خيار سوى بالتغيير الشامل، فيما الترقيع يؤدي إلى تمديد الواقع المأسوي، كما انّ الرهان على التغيير مع هذه الأكثرية ضرب من ضروب الجنون والخيال.
ومن هنا أهمية الثورة التي انطلقت في ١٧تشرين الأول والتي من دونها لا أمل بلبنان الجديد، فهناك للمرة الأولى بيئة شعبية عابرة للطوائف ومهيّأة للتغيير ورافضة للتطبيع مع الوضع القائم على وقع انهيار غير مسبوق يضع الجميع أمام خيارين: الانهيار الشامل من أجل البناء من جديد على أسس مختلفة، او فرملة الانهيار بخطوات جزئية إصلاحية شكلاً ومُعتورة وفاشلة مضموناً بهدف إبقاء القديم على قدمه.
وفي حال تم تفويت هذه الفرصة التي يصعب ان تتكرر فعلى لبنان السلام، لأن لا أمل بمَن أوصَل لبنان إلى الانهيار، ولا خيار سوى بتغيير الذهنية في إدارة الدولة ومؤسساتها المالية والاقتصادية والإدارية والسياسية. وأهمية هذه اللحظة تكمن في تقاطعها بين نظرة شعبية فاقدة للأمل بالأكثرية الحاكمة، وموقف خارجي غير مستعد لمواصلة مساعدة أكثرية فاشلة، ووضع مالي ينزلق نحو الأسوأ في انتظار التغيير الكبير الذي يوقف هذا الانزلاق ويعيد الاستقرار والتوازن.
وفي كل هذا المشهد تَبرز وجهتا نظر مسيحية، الأولى تدعو الى استقالة رئيس الجمهورية بسبب تحالفه مع «حزب الله» وعمقه الإيراني ما يضع لبنان في مواجهة الشرعيتين العربية والدولية، ويحول دون تطبيق دولة القانون في لبنان، وتعتبر انّ الدعوة الى رحيله ليست متأتية من تأييدها أو معارضته له، إنما بسبب ممارسته، وانّ ما ينطبق عليه ينسحب على غيره، وانّ الحواجز الطائفية لا يجب ان تشكّل حمايات على حساب منطق الدولة، وانّ المطروح ليس استهداف المواقع الدستورية ودورها وصلاحياتها، إنما فقط الأشخاص الذين لا يمارسون بوَحي متطلبات مواقعهم الوطنية والدستورية، خصوصاً انّ الرئاسة المسيحية يجب ان تكون رأس حربة إرساء الدولة المدنية الحديثة والمتطورة.
أمّا وجهة النظر الثانية فتعتبر انّ دور رئيس الجمهورية اختلف بين الجمهورية الأولى والثانية، وإذا كانت استقالته ما قبل «اتفاق الطائف» مبررة بفعل رئاسته للسلطة التنفيذية، فإنّ هذه الاستقالة غير مجدية بفِعل انتقال السلطة التنفيذية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، وما يصحّ على رئيس الجمهورية ينطبق على رئيس الحكومة كون الأداة التنفيذية هي في يد مجلس الوزراء، وبالتالي ما الجدوى من المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية ونقل الأزمة من تشكيل الحكومة المطلوبة إلى أزمة سلطة برمّتها.
وتخشى هذه الوجهة من خلال طرح استقالة رئيس الجمهورية من نقل الأزمة من كونها وطنية ومعيشية ومطلبية ومالية، إلى مشكلة مسيحية - مسيحية وعودة الانقسام العمودي المسيحي، خصوصاً انّ الرئيس ميشال عون هو أوّل رئيس بعد «اتفاق الطائف» لديه حيثية مسيحية شعبية ونيابية، وتسأل عن المصلحة في إضعاف دوره وموقعه في مرحلة تحولات كبرى يصعب تقدير حجم انعكاسها على النظام السياسي في الوقت الذي أعيد في عهده تصحيح الخلل الميثاقي، وكل الخشية من ضرب هذا الإنجاز في حال إسقاطه بالشارع. وبالتالي، تطرح ضرورة التوفيق بين الحاجة الماسّة للتغيير وطنياً من خلال إرساء قواعد حكم جديدة، وبين الحرص على التوازنات الميثاقية التي تستدعي إبقاء خطوط الحد الأدنى بين المكونات المسيحية حفاظاً على هذه الميثاقية.
وفي موازاة الوجهة الأولى والثانية هناك من يدعو إلى ترك الأمور تأخذ مداها من دون افتعال إشكالية او إشكاليات طائفية يمكن ان تنعكس سلباً على دينامية الشارع التي يجب دعمها وتشجيعها ورفدها بكل المقومات اللازمة، خصوصاً انها تتغذى أساساً من الانهيار المالي، وذلك وصولاً في الوقت المناسب إلى التغيير الشامل تحت سقف الدستور والمؤسسات انطلاقاً من قاعدة أنّ دولة 13 تشرين دخلت في مرحلة السقوط، وانّ دولة 17 تشرين دخلت في مرحلة النهوض.