يتساءل كثر من العراقيين عن سبب خذلان رئيس الوزراء المستقيل عادل عبدالمهدي لهم في أخطر حالة تتطلب التعبير عن قرارات سيادية، والتي تجسدت في الاشتباكات الإيرانية الأميركية الأخيرة على أرضه.
كما يتساءل العراقيون عن سبب صمت رئيس وزرائهم في لحظات تتطلب اتخاذ قرار سيادي، باعتباره القائد العام للقوات المسلحة، حين أبلغته طهران بشنها هجومات صاروخية على القواعد العراقية في غرب العراق وشماله.
هل أن ذلك الصمت المريب كان ناتجا عما عرف عنه من تخاذل وضعف، أم أن ذلك يقع في خانة وصفها العراقيون بـ”الخيانة”. وكان استطلاع قامت به قناة الحرة، عبر منصاتها في مواقع التواصل الاجتماعي، أظهر أن 80 بالمئة من المصوتين اعتبروا صمت عبدالمهدي وعدم اعتراضه المسبق على الضربة “خيانة عظمى”.
إضافة إلى موقفه العسكري المتخاذل، لم يدن عبدالمهدي الهجوم الإيراني، واكتفى وزير خارجيته بعد يومين بالتنديد العام والوعد باستدعاء السفير الإيراني ببغداد. في حين كان سارع للذهاب إلى مجلس النواب العراقي بعد حصول الضربة الأميركية في الثالث من يناير والتي قتلت قرب مطار بغداد الجنرال الإيراني قاسم سليماني ومعه أبومهدي المهندس.
وألقى عبدالمهدي، حينها، خطبة عاطفية طالب فيها بإنهاء التواجد الأميركي في العراق دون الحد الأدنى من حسابات المصلحة العراقية العليا وفي ظل مقاطعة كردية سنية لتلك الجلسة، في موقف وصف بأنه تلبية لرغبة النظام الإيراني.
لا أحد يلوم عبدالمهدي على موقفه المتعاطف مع طهران. ولا يستغرب أحد وقوف ممثله الرسمي في التعزية، فالح الفياض، أمام خامنئي ووصفه له بـ”السيد القائد” لأنه حقيقة قائدهم ومرجعهم بعد أن غيّبوا مرجعيتهم العراقية.
لكن المستغرب نسيان عبدالمهدي أنه دستوريا هو رئيس حكومة لدولة اسمها العراق. ويتطلب منه هذا الموقع قدرا من الامتثال لشرف المسؤولية الأولى والتعبير عن السيادة قبل الانحياز للموقف العقائدي والولائي لحكام طهران.
لم يسمع عبدالمهدي تحذيرات المسؤولين الأميركيين الصريحة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة عن مخاطر وتداعيات التدخل الإيراني في العراق. واضطر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو للحضور إلى بغداد في أغسطس العام الماضي وإبلاغه إنذارا أميركيا لمخاطر الميليشيات التابعة لإيران وتهديدها للمصالح الأميركية في العراق واستعداد واشنطن لحماية أمن العراق.
ولأن الأزمات دائما ما تكشف قدرات السياسيين وبلاغة تأثيرهم، فقد كشفت هذه الأزمة عن ضحالة المستوى السياسي لعبدالمهدي وفقدانه للقراءة المستقبلية المتطابقة مع مصالح البلاد. وقد سمع تحذيرات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأذن إيرانية حين لوح بأنه “سيفرض عقوبات اقتصادية صارمة على العراق” إذا ما تأكد انحياز حكومته لإيران. ومن أمثلة تلك العقوبات قطع تدفق السيولة النقدية من الدولار، خصوصا أن الدخل القومي العراقي من مبيعات النفط بأكمله هو تحت سيطرة البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، إضافة إلى قطع العلاقات المصرفية الأميركية مع المصارف العراقية والبنك المركزي، وحظر التعامل مع الدولار ورفع الحصانة عن الأموال والأصول العراقية في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى قطع التعاون العسكري والاستخباراتي ورفع الغطاء الجوي عن العراق.
أراد عبدالمهدي أن يعيد مواصفاته الشخصية المتذبذبة في المواقف والآراء عبر تاريخه السياسي. روى لي من كان مسؤوله الحزبي حين كان داخل صفوف البعث إنه بعد سنوات من خروجه من ذلك التنظيم التقاه في دمشق في الثمانينات واستغرب أن شاهده يلف وشاحا أخضر على رقبته مرتديا “الدشداشة” السوداء سائلا إياه: ما الأمر؟ أجابه: لقد اخترت الطريق النافع، مشيرا بيديه إلى جهة إيران.
كشفت الوقائع الأخيرة أن ما كان عبدالمهدي يشيعه عن نفسه بأنه دائما ما يحمل استقالته في جيبه لم يكن حقيقيا، وثبت أنه متشبث بمنصبه وحاول المناورة على قرار الانتفاضة الشعبية التي أرغمته على تقديم الاستقالة بالتعبير عن تنفيذه لرغبة المرجعية “الشيعية” وولائه لها وليس لجمهور الشعب المنتفض.
وخلال الأزمة الحالية حاول التماهي مع الموقف الإيراني على حساب العراق لكي يقرروا بقاءه برئاسة الحكومة وقد ناشد البرلمان في خطبته الأخيرة بدعم حكومته رغم أنه أعلن استقالته مع طاقمه الحكومي.
عبّر عبدالمهدي عن مواقف معادية لانتفاضة شباب العراق، وهو يعلم بعمليات القتل منذ مراحلها الأولى. ولم يحاسب أحدا. كما لم يوقف مسلسل الاختطافات المستمرة للناشطين، لأنه وغيره من الميليشيات المسلحة يخشون نجاح أهداف الانتفاضة في تحرير العراق من التبعية لإيران.
وأكدت الأحداث الأخيرة الموقف الوطني العراقي لهؤلاء الشباب الهادفين إلى إزاحة أحزاب الفساد والمجموعات الطائفية المسلحة المدعومة من إيران والتي تحاول المكابرة في المنازلة الأخيرة لكنها تدرك أن سيدها النظام الإيراني الذي ربطت مصيرها به أصبح في أسوأ حالاته رغم ضجيج الصواريخ الفارغة.