تدخل المنطقة في طور جديد سيعيد رسم الخرائط السياسية التي قلما اهتزت منذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران. تغير الشرق الأوسط، لاسيما منذ اندلاع “الربيع العربي”. تغيرت مصر وتونس وليبيا وسوريا، وتغير اليمن والسودان، وتغير لبنان والجزائر. لا يهم ما هو التقييم الإيجابي أو السلبي لهذا التغيير أو ذاك، إلا أن الثابت أن العالم كله يتغير، فيما لم يطرأ على النظام في طهران أيّ تغيُّر يُذكر منذ الإطاحة بشاه البلاد عام 1979.
تغيرت الولايات المتحدة منذ اعتلاء دونالد ترامب “عرش” بلاده. تغيرت قبل ذلك بانتخاب باراك أوباما لولايتين رئاسيتين، بيد أن ترجل ترامب على رأس السلطة في البيت الأبيض، جاء متوِّجا لتحولات جرت داخل “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة على النحو الذي ظهر في استحقاقات وملفات لاحقة. قطع ترامب “قدسية” التحالف الغربي، وأيقظ داخله شياطين التناقضات التي كانت نائمة كرمى لعين الصراع البائد مع الاتحاد السوفياتي. اندثرت الحرب الباردة منذ عقود، وبات مشروعا أن يكشّر رئيس الولايات المتحدة عن أنياب غليظة ضد أوروبا وكندا والمكسيك والحلف الأطلسي، كما تكشّر الولايات المتحدة عادة ضد خصوم مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية.
تساكنت الإدارات الأميركية على المدى العقود الأربعة الأخيرة مع “ظاهرة” جمهورية الولي الفقيه. قيل إن قواعد الحرب الباردة روّجت لقدوم زعيم “ديني” يحكم إيران بديلا لشاهها الضعيف، فيقف سدا منيعا ضد دولة “الإلحاد” في الاتحاد السوفياتي. قيل أيضا إن إيران دولة كبرى يصحّ تدجينها والحدّ من أخطارها، ولا يصحّ خوض حرب ساحقة ضد نظامها. فحين حكم محمد مصدق البلاد بدعم الشعب الإيراني عام 1953، لم ترسل واشنطن جحافلها، بل إن وكالة المخابرات الأميركية تدبّرت الأمر داخليا وأعادت الشاه من منفاه. وعليه لا يجوز اللعب في مصير دولة محورية في المنطقة تخدم في النهاية مصالح هذا الغرب، وإن كان خطابها العقائدي يبدو معاديا، لكنه بالنهاية لا يشكل خطرا وجوديا كذلك الذي كانت تشكله الإمبراطورية الشيوعية منذ صعودها وحتى زوالها الميمون.
كانت إيران الثورة عونا في الحرب التي شُنت ضد الاحتلال السوفياتي في أفغانستان، وعونا في حرب الولايات المتحدة ضد نظام طالبان هناك، وعونا في القضاء على نظام صدام حسين في العراق. موضوعيا، وقفت طهران في خندق واحد مع واشنطن في جهودها وحروبها في تلك المنطقة، على الرغم من أن شعار “الموت لأميركا” لم يسقط يوما، وعلى الرغم من أن “الشيطان الأكبر” في واشنطن كان يُدرج إيران داخل “محور الشر” الشهير. وقد يطول الحديث عن تقاطع في المصالح وتبادل منافع خبيث لم يتوقف يوما بواجهات تعددت أشكالها وهوياتها، كان آخرها التحالف شبه المعلن، وبرعاية الجنرال قاسم سليماني نفسه، لمحاربة تنظيم داعش، لاسيما في العراق وسوريا.
لم تخرج إيران يوما عن خطوط الممكن والمتاح داخل خريطة مصالح الولايات المتحدة في العالم. كانت واشنطن تعتبر أن إيران عامل يلعب دوما دور الشريك أو المساند، وأن ما تظهره طهران من عداوة قد تأخذ طابعا دمويا داخل هذا الميدان أو ذاك (تفجير السفارة الأميركية ومقر المارينز في بيروت مثالا)، لم ينف يوما التزام طهران بالحدود المعقولة للعبة الكبرى. بيد أن تمرد دونالد ترامب على الاتفاق النووي الذي عمل سلفه باراك أوباما بدعم كامل من المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية الأميركية على صناعته، أماط اللثام عن فلسفة جديدة داخل “الدولة العميقة” بدأت ترى الأمور بعين أخرى، وتقيس موقع أميركا في العالم، على قاعدة أنها الأقوى، وفق مكيال جديد يأخذ بعين الاعتبار الخطر الصيني بصفته بات داهما “وقحا” يتطلب جراحات عاجلة.
باتت إيران ركنا من أركان المناورات المشتركة مع الصين وروسيا تارة في المحيط الهندي، وتارة في بحر عمان. ذهب العراق الخاضع لنفوذ إيران لتوقيع اتفاقيات اقتصادية مع الصين بقيمة 400 مليار دولار ولفتح حدود البلاد مع سوريا عبر بوابة القائم – البوكمال، بما يتيح لإيران فتح ممرّها الاستراتيجي الشهير بين طهران وبيروت. بدا أن للتمدد الإيراني روائح صينية كريهة.
قد يكون من المخاطرة القول إن قرار ترامب بتفخيخ الاتفاق النووي من خلال انسحاب الولايات المتحدة، والذهاب بعد ذلك إلى فرض “عقوبات تاريخية” على طهران، وفق تعبير ترامب نفسه، لا يهدف إلا إلى استعادة إيران إلى الحضن الأميركي، كما كان أمر ذلك في عهد الشاه قبل الثورة الإيرانية. أرفق ترامب تهديداته دوما برسالة كرّرها، بضجر، أن بلاده لا تريد إسقاط النظام في إيران. لم يكن ترامب يكذب ولم تكن الولايات المتحدة ودولتها العميقة تريد ذلك. فالهدف بالنهاية هو سوق هذا النظام بالذات داخل تحالف تبنيه واشنطن في العالم يوقف المد الصيني الذي يتسرّب عبر طريق الحرير ليقضي يوما على زعامة الولايات المتحدة في العالم.
لم تدعم واشنطن أيّ فصائل مسلحة ما برحت تقاتل ضد نظام طهران منذ عقود. ولم تتدخل يوما في صراع الأجنحة السياسية الداخلية في إيران لصالح هذا وضد ذاك. ولطالما كان موقفها محبطا مخزيا حيال الانتفاضات الشعبية التي شهدتها المدن الإيرانية بحيث كاد يكون غائبا أثناء “الثورة الخضراء” عام 2009 التي خرجت احتجاجا على تزوير مزعوم أعاد انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسا للجمهورية. ولم تعلق كثيرا على انتفاضة المدن الإيرانية الصاخبة بين عامي 2017 – 2018 والتي أجمع ساسة إيران، المحافظون والمعتدلون الإصلاحيون، على وصفها بالغوغاء، ولم تعلق إلا بالحد الأدنى الداعي إلى احترام حقوق الإنسان في الموقف الذي اتخذ، وعلى لسان وزير الخارجية مايك بومبيو خصوصا، في مواكبة الانتفاضة الأخيرة في البلاد.
لا تريد واشنطن إسقاط النظام. ولا تريد أن تدعم أو تساعد أو تعظّم شأن أيّ معاندة داخلية لهذا النظام. لا تريد الولايات المتحدة القضاء على نظام إيران على منوال ما فعلت أو ساعدت ضد أنظمة مثل العراق وأفغانستان وليبيا ويوغوسلافيا.. إلخ، ولا تريد العمل على فرض نظام موال على أنقاض نظام معاد، بل تريد من هذا النظام بالذات أن يكون متموضعا وفق حالة جديدة تتعامل بلغة مصالح الدولة وليس فوضى الثورة. كانت اتفاقية أوباما النووية تحضّر إيران لولوج مرحلة تطبيع مع العالم وفق شروط الراهن التي تجاوزت ظروف إنشاء روح الله الخميني لجمهوريته. اصطفت شركات العالم على أبواب هذا السوق الواعد في إيران، أملا في أن تغلق طهران صفحة وتفتح أخرى تجعل من الوصل بين واشنطن وطهران مصلحة إيرانية. لكن ذلك لم يحصل.
لم يطلب ترامب إلا اتفاقا جديدا مع إيران. أوحت مطالب بومبيو الـ12 الشهيرة ما هو المطلوب من إيران. طهران قرأت هذه المطالب جيدا، وأدركت أن تحول البلد إلى دولة وإنهاء عصر الثورة سيحدث تحولات اجتماعية سياسية ثقافية كبرى تطيح بلزومية ولاية الفقيه وبنيانها في نظام البلد. لم يتغير شيء في أداء طهران، ولم يتغير شيء في خطابها ولم يتغير شيء في مغامرتها في التعويل على إمبراطورية خارج الحدود كان قاسم سليماني مهندسها وراسم خرائطها.
ضربت “الدولة العميقة” على خشبة الستاتيكو القديم. نفذ دونالد ترامب مُحرّما فأزاح من إيران واجهة كبرى، وربما الواجهة الأولى لإيران الثورة.
في تغريدة محمد جواد ظريف بعد الردّ الإيراني ضد قواعد عين الأسد وأربيل الأميركية في العراق منطق إيران الدولة الذي يفيد بأن الرسالة وصلت. في هذا الوقت ما زال المرشد ينفخ من موقعه السامي رياح ثورة مترنحة.