بين الأجانب الكثيرين المستبيحين أرض العراق وسماءه علينا أن نعترف بأن هناك أجنبيّين، أميركا وإيران، ممسكيْن وحيدين بعجلات قيادته العليا والدنيا.
 

إن الاحتلال، من أي نوع ومن قبل أي قوة خارجية، في كل تواريخ الأمم والشعوب، كان، وما زال وسيبقى، مرفوضا، ومقاومتُه بكل الوسائل حقٌ مشروع لا ريب فيه.

فأعزُّ ثلاثة أشياء لدى الشعوب، متحضرة كانت أو بدائية، وأكثرُها قداسة واستحقاقا للتضحية من أجلها بالروح والمال والبنين، هي الكرامة الوطنية والسيادة والاستقلال.

 

إلا في العراق، وإلا في أيامنا هذه. فقد تغير المزاج الوطني تغيرا دراماتيكيا عجيبا غيرَ طبيعي وغير اعتيادي، من النقيض إلى النقيض.

 

فبعد أن كانت الملايين تهتف ضد الأجنبي وتبالغ في كراهته وتتظاهر ضد جنوده وضباطه وتحرق أعلامه وتدوس على صور قادته وزعمائه، صارت تهتف بحياته في برلمانها، وترفع صور قادته في شوارعها ودكاكين بقالتها وجوامعها وكنائسها، وتفاخر باحتلاله، وتقاتل من يدعو إلى طرده، وتقدم له آيات الشكر والامتنان على تدخله في شؤونها الداخلية، علنا وبحماس منقطع النظير.

 

فدون لف أو دوران نعترف بأن في العراق اليوم أكثر من أجنبي واحد يصول ويجول ويُنفق أكوام الريالات والدراهم والدولارات والدنانير على عراقيين جاهزين لبيع أنفسهم وأهلهم وأوطانهم، متطوعين لخدمته، حتى لو أمرهم بأن يُخربوا له الوطن، ويقتلوا أهله. وها هم، دون خوف ولا حياء، دمروا أجمل مدنه وقراه، لإرضائه.

 

ومن بين الأجانب الكثيرين المستبيحين أرضه وسماءه علينا أن نعترف بأن هناك أجنبيّين اثنين، أميركا وإيران، ممسكيْن حقيقييْن وحيدين بعجلات قيادته العليا والدنيا، معا. وهما متفاهمان أحيانا، ومتعاركان أحيانا أخرى، وتدور في فلكهما الأحزاب والمنظمات والحسينيات والمساجد الكنائس والصحف والفضائيات التي تعد بالعشرات.

 

ومن يعترض على ذلك فإن مكانه الطبيعي إما في مستشفى المجانين، أو في إحدى الوزارات الغنية بالعقود والمقاولات والعمولات، أو أحد مقرات قيادة إحدى الميليشيات، أو البنك المركزي، أو أي مصرف خاص آخر، أو مول تجاري شامخ يقدر ثمنه بالمئات من الملايين.

والعراقيون منقسمون بين صديق متفان ومتعصب لهذا، وعدو لدود ومتشدد في عداوته لذاك ومستعد ومتحمس لقتاله وقتال وكلائه الكبار قبل الصغار.

 

ومادام على العراقيين، بحكم الضرورة والواقع الموجود، أن يختاروا الاصطفاف مع أحدَ هذين الأجنبييْن، أميركا وإيران، فتعالوا نتفاهم ونتحاسب. ماذا تأخذ إيران من العراق وماذا تُعطيه، وماذا يأتي من الأميركان إليه وماذا لا يأتي؟

 

ونبدأ بالجارة إيران. فإنها الأقوى في العراق، ولها الأقوى والأكثر عددا والأحسن تمويلا وتجهيزا وتدريبا وتسليحا من أحزاب وميليشيات وجواسيس. وكلاؤها مزروعون تحت جلد كل عراقي، لا فرق بين مسلم ومسيحي، شيعي وسني، عربي وكردي، يصولون ويجولون في مفاصله وفي عروقه، ويُقننون له الصغيرة والكبيرة من شؤونه، بدءا بسلاح جيشه وأثاث وزاراته واختيار وزرائه ومدرائه وسفرائه، وانتهاء بتسعير البطاطا والطماطم والخيار. فهم وحدهم يحتكرون الإشراف والإدارة والتصرف بوزارات الداخلية والدفاع والمالية والزراعة والصناعة والتجارة والاتصالات، والبنك المركزي، وهيئة الانتخابات، وهيئة النزاهة، والبطاقة التموينية، ومحلات بيع الخمور والمخدرات، ويعلّمون الصغار والكبار فنونَ اللطم والسير على الأقدام مئات الكيلومترات للزيارة، وتقبيل صور الإمام المؤسس آية الله العظمى الخميني ووريثه الولي الفقيه علي خامنئي والقتيل قاسم سليماني.

 

بضائع الجارة العزيزة، وحدها، المسموح بدخولها دون أي رقابة، لا صحية ولا تسعيرية ولا هم يحزنون. ويدخل رجالها ونساؤها دون جوازات سفر، ويخرجون دون مساءلة ولا مراقبة وفي حقائبهم سجلات ومعلومات مفصلة عن أصل كل عراقي وفصله، ومعهم صناديقُ مقفلة حشواتُها سبائكُ ذهب البنك المركزي، وأكوامُ الدولارات المختلسة من خزينة الدولة العراقية، وذلك لدعم الشقيقة الكبرى وإعانتها في محنتها التي رماها فيها ترامب وحلفاؤه في المنطقة، والجماهير الغفيرة المنتفضة من العراقيين التي تجرأت وهتفت “إيران بره بره” ناكرة للجميل.

 

باختصار. لا يأتي من الجارة إيران في المدن والقرى والحارات والعراقية، في الوسط والجنوب، غير الفقر والجوع والمرض والمخدرات، وغير انقطاع الماء والكهرباء والدواء والغذاء، وفساد الميليشيات العراقية الإيرانية التشليحية صاحبة الحق الوحيدة في النهب والسلب والضرب بالهراوات والسكاكين وقنابل الغاز القاتلة التي تطلق على الرؤوس والأفئدة.

ومن يعترض على ذلك، أو من يخرج مطالبا بحريته وكرامته ولقمة عيش عياله، عميلٌ استكباري أميركي صهيوني بعثي صدامي داعشي، حلالٌ ذبحُه أو اختطافه أو قتله بالرصاص الحي.

 

والخلاصة أن المواطن العراقي في ظل احتلال الشقيقة الكبرى قد شبع مآتم وجنازات ومناحات وهتافات بحياة الولي الفقيه، وبالصوت العالي، حتى وهو عاطل عن العمل وجائع ومريض، وغير آمن، وصابر على ظلم ذوي القربى، وأمره إلى الله.

أما أميركا، ورغم كل ما ارتكبه ضباطها وجنودها أيام الغزو وبعده، وحتى خروجهم عام 2011، فيذكر لها أنها كانت السبب الأول والأخير في تسليط كوابيس الإيرانيين ووكلائهم على العراقيين.

 

ولا أحد ينسى أيام مجلس الحكم، ومراسيل المرجعية إلى بول بريمر، ومراسيل بريمر إلى المرجعية، ولا ذكريات كتابة الدستور وتسليم الجمل بما حمل لحزب الدعوة والمجلس الأعلى ومنظمة بدر والتيار الصدري وحزب الفضيلة، وبرعاية القتيل الراحل قاسم سليماني.

 

فأميركا اليوم غير أميركا أمس. نعم. أميركا ترامب غير أميركا جورج بوش الابن، ولا أميركا باراك أوباما. لقد تعلمت كثيرا من العراق والعراقيين، واكتشفت ولو متأخرا، أن إيران لا تصلح حليفة، ولا عدوة أيضا.

 

ولأن العراق بالنسبة لها درة تاجها الشرق أوسطي والعالمي أيضا، وقلعتها التي أنفقت الكثير من مالها ودماء رجالها على امتلاكها وتعزيز وجودها فيها، فقد وجدت أن محتلين أجنبييْن قويين كبيرين يصعب عيشهما معا على أرض واحدة.

وها هي، من أول سنوات رئاسة ترامب، منهمكة في تبغيض العراقيين من إيران، وفي تقليع أظافر عدوتها الجديدة وأسنانها في العراق، ثم في المنطقة.

ومن أجل ذلك، فإنها، لو تحقق حلمها الصعب العنيد، وتمكنت من طرد إيران، وتخلصت من وكلائها المختلسين المنافقين المزورين المتخلفين الفاشلين، لن تكون كما كانت سيرتها الأولى عندما غزا جيشها العراق، وظن أنه قادر على حكم العراقيين، وتسيير وزاراتهم ومؤسساتهم وجامعاتهم وأسواق فاكهتهم وخضارهم، بالقوة والجبروت، ولن تستعين بوكلاء عراقيين مختلسين منافقين مزورين متخلفين وفاشلين، وستدرك أن عراق 2003 لم يعد موجودا، وأن العراقيين اليوم غير آبائهم ولا أجدادهم، وأن من الصعب، بل المستحيل خداعهم وغشهم، ونهب خيراتهم بالمجان، وحكمهم بقوة السلاح.

وأغلب الظن، أيضا، أنها لو تحرر العراق من غريمها الإيراني، لفعلت مع العراق، هذه المرة، ما فعلته مع اليابان وفيتنام وألمانيا، أو ما تفعله مع السعودية والإمارات والبحرين والكويت وقطر وعمان. بعبارة أوضح سيكون سلاحها الأمضى من كل سلاح هو التجارة والاستثمار وبيع الأقمار الصناعية والمواصلات وشبكات الاتصال والمصارف والقروض.

 

ولأنها تعلم بأن النفط العراقي مُختلس حاليا وتذهب عوائده إلى ما وراء الحدود، فسوف تكتفي بسرقته، ولكن شراء بربع القيمة، وليس نقدا بل معلبات وأدوية ومسكنات ومجمعات سكنية وتجارية وناطحات سحاب.

وسيفاجأ العراقيون، كما حدث في دول الخليج العربية، بشركات أميركا وأوروبا والصين واليابان والروس تتسابق على مقاولات ومناقصات ومشاريع الإعمار والبناء والاستثمار. وكما حدث في بلدان عديدة في المنطقة والعالم فستمتلئ خزانة الدولة بالأموال، وستضطر الحكومة إلى بناء إقراضها لمن يستحقها من الشطار العراقيين.

 

وفي أعوام قليلة سترتفع العمارات المزخرفة المنورة على جانبي دجلة والفرات، وسيخلو الوطن، تماما ونهائيا، من جيوش المسلحين ومن المعممين، ويمتلئ بالمقاولين والمهندسين والخبراء والمستثمرين، وستختفي الرايات السود وأقمشة النعي والحداد وتحل محلها إعلانات حفلات الغناء والموسيقى والمسرحيات ولوحات الرسامين وصور عارضات الأزياء، وآخر موديلات السيارات والملابس وعيادات الأطباء وشركات الأدوية وشركات السياحة والاستجمام.

 

أليس هذا ما هو حاصل في دول عديدة لم تجد ما ينتهك سيادتها ويهين كرامتها في قبول صداقة أميركا المقننة والمحددة كاليابان وألمانيا واليونان وتركيا وكوريا الجنوبية وإندونيسيا والأرجنتين وقطر والسعودية والكويت؟ وهل نحن أكثر وطنية وكرامة من هؤلاء أيها العراقيون؟