بصراحة، وفي كل مرة كان يخرج أحد قادة الحرس الثوري، إبتداء بالمرشد، وصولاً إلى أدنى الرتَب في فيالق الحرس المتعددة، وحتى ذاك الجيش الذي لا يحصى عدد متطوّعيه، ممّن يصول ويجول دائماً في مواجهة العدو على مساحات التواصل الاجتماعي، كنتُ أتمنى أن يخيب ظني، ولو مرّة واحدة، ليذهب مَن صال وجال، من أعلى القمة إلى أدناها، لينفّذ ما قال إنه قادر على فعله، وهَدّد العالم من قاصٍ ودانٍ بأنه سيقوم به، لو أنّ الطرف الآخر تجرّأ على القيام بفعل استفزازي ما.
لسنوات وعقود طوال، كنّا نسمع من قادة عرب ميامين وملهمين أنّ المعركة محسومة سلفاً مع العدو، وأنّ العدو خائف، لكنه دائماً مستعد للغدر! لذلك فإنّ شعار «كل شيء للمعركة» كان المخَدّر الدائم الذي أدمَنت عليه شعوبنا في سبيل التعالي عن شَظف العيش وظلم السلطان وغياب النمو والتخلّف والعجز عن السير في ركب الحداثة واحترام حقوق الإنسان والانتخابات الشفافة... وفي كل مرة كان العدو يتطاول على تخطّي الخطوط الحمر الذي حدّدها حكامنا الميامين، كان يخرج قائد عظيم مُلهم ليقول: «نحن من يحدد زمان المعركة ومكانها، وليس العدو الذي يستدرجنا إلى معركة لم نستعد لها»، مع أنّ الكلام كان دائماً عن الاستعداد التام لتدمير العدو ومَحوه عن الخريطة، ورَميه في البحر من حيث أتى!
عقود من التضحيات والصبر مضَت على شعوبنا حتى تمكن البعض منّا من الخروج من إدمان مورفين «كل شيء للمعركة»، وبدأوا يسألون ويشككون، فيقتلون أو يدخلون السجون كخونة ومتآمرين مع العدو بتهمة هزلية هي «إضعاف الروح القومية»، أو يهاجرون كافرين بالوطن إلى غير رجعة.
كان هذا أيام القادة القوميين الميامين الذين خسروا كل الحروب، ولم يجدوا السبيل يوماً لاختيار لا الزمان ولا المكان للمعركة الحاسمة مع العدو. لكنهم بالتأكيد كانوا مظفرين في استهداف البشر العزّل الذين كانوا ينزلون إلى الشوارع مطالبين باسترجاع كرامة المواطن والوطن. فدمّروا المدن وهجّروا الشعب وقتلوا الأبناء في سبيل البقاء على رقاب الناس، ونجحوا في هزيمة الناس بالرغم من فشلهم الكامل في تحقيق ولو بعض الوعود والتعهدات بخصوص العدو.
عندما انتصرت الثورة الإيرانية سنة 1979 وأغلق قادتها سفارة إسرائيل، ظننّا أنه أتى من يواجه العدو للمرة الأولى بروح ثورية تتخطى مبدأ ديبلوماسية مجرد البقاء في السلطة للحاكم. تخطّينا وتفهّمنا كل الوحشية التي واجَه بها الحكم الجديد الشركاء الثوريين، من مذاهب لا تتبع الولي الفقيه، يساراً ويميناً ووسطاً، واعتبرنا أنّ كل «الشكليات»، ولو كانت وحشية، تهون في سبيل تَعهّد قادة الثورة بتنفيذ وعود قادة آخرين كانت كاذبة.
لكنّ الزمان لم يطل كثيراً حتى ظهر الوجه الحقيقي من تحت برقع القداسة والنذور العقائدية، بأنّ مشروع ولاية الفقيه هو مجرد مشروع سلطة جديد، أضاف الى الهيمنة على وطن بحد ذاته، مشروعاً عابراً للأوطان عنوانه الجمهورية الإسلامية الكبرى، بدلاً عن الإمبراطورية الساسانية أو الأخمينية أو الصفوية. ما لاحظناه أيضاً هو أنّ هذا المشروع الجديد الذي وضعنا فيه آمالنا، ولاستيلائه على القدسية والمشروعية الدينية، جعل من تلك القدسية رخصة روحية لاستباحة أرواح البشر ولدمار البنيان تحت لواء شرعة الشهادة والمظلومية! هذه الممارسة انتقلت من طهران، وتنقّلت بين العراق وسوريا ولبنان واليمن، وعَرّجت عند اقتدارها على مناطق أخرى في العالم، تحت أسماء مغفلة. بالنتيجة، فإنّ شعوب المنطقة تدفع بسبب ذلك ما لم تشاهده حتى في أسوأ كوابيسها من مآس وذل وهو ان لم يقم باقترافها حتى العدو الأساسي في عز انتصاراته الكبيرة.
ولكن، مع كل ذلك، فلا بأس لو أنّ الوعد الصادق بتدمير العدو، هكذا، ولو لمرة واحدة، كان صادقاً في الحد الأدنى، فكانت بضعة صواريخ بعيدة المدى، انطلقت من ضواحي طهران أو تبريز أو أصفهان في اتجاه موقع عسكري في إسرائيل؟ لكنّ ذلك لم يحدث أبداً، ولا يبدو أنه سيحدث في المدى المنظور. ونحن نتفهّم ذلك بكل موضوعية، فموازين القوى لا يمكن تحديدها بالأرقام والأعداد، بل بالعدّة المائلة من دون منازع تجاه العدو وشيطانه الأكبر. وما فهمناه من عقم حكّامنا عن فعل أي شيء، سنقبله من الحرس الثوري إذا اعترف بالعجز عن المواجهة انطلاقاً من البلد الأم. لكن ما زنب شعوب المنطقة لتغريمها ثمن ذاك العجز وتحميلها الموت والدمار على أراضيها؟ وهذه المرة ليست لحساب قائد وطني فذ، بل لحساب امبراطور مقدّس يجلس اليوم على عرش داريوس الكبير؟
ما هو واضح مما حدث في الايام السابقة، من قتل وقصف في العراق، هو أنّ إيران ليس لديها لا القدرة ولا الرغبة بالانتحار في حرب معروفة النتائج، وأنّ جل ما تبغيه هو المحافظة على النظام هناك مع بعض مستعمراته. فمهما بالغَ الحرس الثوري في تصوير القصف الرومنسي لقاعدة الأسد الأميركية بأنه انتصار مبين مَرّغ أنف الشيطان الأكبر بالتراب، لكنّ العاقل يفهم من كلام رجال الدولة في إيران، المغلوب على أمرهم، بقولهم بعدم الرغبة بالدخول في حرب، وانّ القصف الصاروخي هو الرَد الوحيد والنهائي على الجريمة بحق قائد فيلق القدس، وكأنّ روحاني يقول للأميركي: «رجاء لا ترد!» ولا أحد منّا يدري حقيقة ما دار في الأروقة الديبلوماسية من رسائل تطمينية من إيران تجاه أميركا. لكنّ المشكلة تكمن في أنّ الشيطان الأكبر اليوم، ربما، ولأسباب خاصة به، قرر الذهاب إلى أبعد من عملية اغتيال لتحجيم إيران وعقلنة مشاريعها الكبرى. وما يهمّنا نحن في بلدنا هو أن يقرر الحرس الثوري، ولو لمرة واحدة، الامتناع عن جعل لبنان ساحة بديلة عن إيران للرد على العدو.