النظام الإيراني إذا كان لا يستطيع أن يرد، بسبب ضعفه، فإنه يظل يملك من طاقة الحقد ما يكفي لكي يتدبر أعمالا تخريبية وجرائم يُرضي بها غرور الضغينة ونكران الهزيمة.
 

يرى “الولي الفقيه”، وحكومته وميليشياته، حقيقة ساطعة، هي أنهم يقفون على أبواب هزيمة منكرة. وأنهم إذا اختاروا الرد على مقتل “الرجل الثاني” في النظام، قاسم سليماني، فإنهم سوف يتلقون ردا ساحقا من جانب الولايات المتحدة.

هناك رهان واحد تستطيع إيران أن تعوّل عليه، هو أن حجم القوات الأميركية في العراق والمنطقة ليس بالسعة التي تسمح بخوض حرب أو غزو إيران.

 

ولكن من قال إنّ واشنطن تريد أن تغزو إيران؟ ومن قال إنّ انهيار النظام فيها يتطلب مليون جندي؟ ومن قال إنّ الهزيمة يجب أن تكون عسكرية دائما؟

لقد شرب “ولي فقيه” سابقا كأس السُمّ وقَبِل الهزيمة حيال جيش أقل قدرات من الولايات المتحدة. ويعرف خامنئي أن نظامه لن يصمد أسبوعا إذا ما اندلعت حرب.

 

يستطيع هو وأتباعه، أن يهدد بضرب القواعد الأميركية، أو أن يحرّك مأجوريه وعملاءه لكي يطلبوا رحيل القوات الأميركية من العراق، وأن يعدها، بـ”خروج مذلّ”، ولكنه يعرف أن الغوغائية شيء، والخسائر التي تملى على الأرض شيء آخر. النظام الإيراني يمكن بسهولة أن يسقط من تلقاء نفسه.

 

أولا لأنه مكروه من جانب شعبه، ولأنه ارتكب فيه من الجرائم ما يكفي لكي ينتظر الناس سقوطه ومحاكمة رموزه، بل وأن يذهبوا إلى دعم أي قوة خارجية تمكّنهم من التخلّص منه ومن الويلات التي فرضها عليهم.

ثانيا اقتصاده المنهار أصلا لن يبقى منه أي شيء إذا ما أدّى القصف المحتمل، ولو على منشآت النفط وحدها، إلى تدمير القليل مما توفره من موارد.

 

ثالثا قوته العسكرية التي لطالما راهنت على الميليشيات، رخيصة الكلفة، لن تقوى على مواجهة أي قوة عسكرية في المنطقة، فما بالك بقوة الولايات المتحدة. صحيح أن قوته تتضمن حشدا من الصواريخ، إلا أن تصفية الحساب معها يظل سهلا، سواء بفضل التكنولوجيا المتاحة، أو بفضل القوة الصاروخية المضادة. إيران تعرف من هذه الناحية، أنها لا تملك الكثير في هذا الملعب، ولا تسيطر على اللعبة.

 

رابعا إنه نظام معزول في العالم. حتى أقرب حلفائه إليه لن يتمكّنوا من دعمه إذا جدّ الجدّ. والجميع يعرف أنه نظام جرائم وأعمال وحشية ومصدر رئيسي من مصادر الإرهاب. وتأديبه، كلما شنّ عدوانا جديدا، أمر ممكن. بل وبات منذ الساعة ضروريا.

 

فإذا أخذت من الغوغائيات السابقة مثالا، فإن ردود الفعل المباشرة على مقتل قاسم سليماني، كفت دلالة على أن هذا النظام وميليشياته وأحزابه يواجه، للمرة الأولى، وضعا بائسا إلى درجة أنه لا يملك إلا أن يُذعن للحقائق ويشرب كأس السم ثانية.

 

إيران لن ترد. ويا ليتها تفعل. فحتى لو تمت تصفية كل قادة ميليشياتها الآخرين، واحدا بعد الآخر، فإنها لن ترد. ليس الآن على الأقل. لأنها تعرف حجم العاقبة، ولأنها تراها كما يرى المرء أصابع يديه، بل ولأنها لا تملك من الأساس ما تردّ به. حتى ليحسن بالزمرة الفاسدة أن تبحث عن مأوى، وأن تكفّ عن الاعتقاد بأن لها قيمة، وأنها يمكن أن تشكّل خطرا، أو أن تكون شيئا أكبر حشو هراء في موازين القوى.

تعرف تلك الزمرة، على أي حال، أن الكبار إذا دخلوا الملعب، لم يبق للزعاطيط مكان ولا دور. وأنها نهبت بما يكفي لأن تهرب بما كسبت.

 

ميليشيات الحشد الشعبي سرعان ما قد تتفكك أيضا. لعل قادتها الصغار ينجون مما ارتكبوا من مظالم. وستظل إيرانهم تتلقى الصفعة تلو الأخرى من دون أن تجرؤ على التحدي. لأنه سيكون انتحارا.

 

وهذه في الواقع فرصة يحسن أن تُستثمر إلى أقصاها. أولا، بإلغاء النظام الطائفي في العراق، وإسقاط طبقة البيض الفاسد التي ظلت تحكمه وطرد ميليشياته إلى حيثما أتت. وثانيا بتغيير النظام في لبنان، لكي يفهم الولي الفقيه أن ملعب الإرهاب يضيق عليه، وأن مقتل سليماني هو بالأحرى مقتل لمشروعه القائم على زرع الميليشيات وزعزعة الاستقرار وتفتيت المجتمعات على أسس طائفية وإغراقها بحروب أهلية لكي تتمدد إيران من خلالها. وثالثا لكي يسقط مفهوم “تصدير الثورة”، وتتقلم أظافر الوحشية داخل إيران نفسها.

وهناك سبب مهم لمتابعة هذه الفرصة؛ سبب تفرضه المعرفة بطبيعة النظام الإيراني، بل وبالطبيعة الحقود للمذهب الصفوي نفسه.

 

هذا النظام، إذا كان لا يستطيع أن يرد، بسبب ضعفه، فإنه يظل يملك من طاقة الحقد ما يكفي لكي يتدبر أعمالا تخريبية وجرائم يُرضي بها غرور الضغينة ونكران الهزيمة.

الحادث الذي دفع السفينة الأميركية “فينسينز” إلى إطلاق صاروخ على طائرة الركاب الإيرانية فوق مياه الخليج في يوليو 1988، لم يكن سوى خطأ مؤسف. إلا أن إيران تدبرت في الأول ديسمبر من العام نفسه تفجير طائرة لوكربي الشهيرة. التهمة ألصقت بالعقيد معمر القذافي، لأسباب تتعلق بالقذافي نفسه، بينما كانت هناك مصالح أخرى تتحرك مع من ارتكب الجريمة بالفعل. كانت هناك مصلحة للولايات المتحدة وبريطانيا، أن تضع القذافي في القفص، فتمت التغطية على المجرم الحقيقي: آية الله الخميني الذي أمر بالقصاص لسقوط طائرة الركاب الإيرانية.

 

الكثير من التفاصيل الأخرى، كشف عنها كتاب دوغلاس بويد “لوكربي: الحقيقة”. ولقد انكشفت الحقيقة تاليا بالفعل.

بريطانيا والولايات المتحدة تعرفان الآن أن إيران هي التي كانت وراء تلك الجريمة. ولكنهما ظلتا تتغاضيان عن إعادة توجيه الاتهام، لأن الملف، بالذي كان في القفص، وبالتعويضات، تم طيّه. هذا مجرد مثال، لما يمكن للحقد أن يفعله.

 

الحرب مع العراق مثال آخر. لقد قبلت إيران الهزيمة عام 1988. إلا أنها انتظرت أعواما طويلة قبل أن تقوم بتصفية الحساب، ليس مع الرئيس الراحل صدام حسين شخصيا فحسب، بل من كل العراق أيضا، حتى حوّلته إلى مستنقع للفساد والقتل والدمار.

 

إسماعيل شاه الصفوي نفسه، بعدما هُزم على يد السلطان العثماني سليم الأول في صحراء جالديران شرق الأناضول في أغسطس 1514، هرب إلى أذربيجان، وعاد لينتقم من سليم الأول، في غزوة جديدة إلا أنه مات بحقده مسلولا عام 1520.

إنه نظام قائم، برمّته، على الحقد. وما لم يتم سحق رأس الأفعى، فإن قطع ذيولها لن يترك عليها أثرا سوى أن يزيد السُمّ فيها سُمّا.