معلوم انّ الطرف الذي ينتهك سياسة «النأي بالنفس» هو «حزب الله»، الذي يشكّل جزءاً لا يتجزأ من محور الممانعة، الذي لا ينظر إلى لبنان كدولة قائمة بذاتها، لها سياساتها ومصالحها وأولوياتها، إنما يعتبره ساحة من ساحات المواجهة الإقليمية نصرةً لأهدافه. كما انّ فلسفة التحييد أو الحياد تتناقض مع علّة وجوده وعقيدته وأيديولوجيته. وبالتالي مجرّد تطبيق سياسة النأي يعني انتفاء الدور الأساسي للحزب الذي كان وراء نشأته وتأسيسه.
ولكن، بما انّ القاعدة الرئيسية لـ«حزب الله» هي لبنان، حيث تشكّل المناطق الشيعية خزان الحزب الأساسي ومؤسسات الدولة من مجلس النواب إلى مجلس الوزراء وغيرهما، مواقع حماية سياسية له وضماناً لدوره، فإنّ عليه دوماً التوفيق بين متطلبات بيئته ودوره، وهذا ما يفسِّر حرصه في السنوات الأخيرة على المزاوجة بين الاستقرار في لبنان عموماً وإبعاد شبح الفتنة السنّية - الشيعية خصوصاً من جهة، وبين مواصلة دوره الإقليمي في سوريا وغيرها من جهة أخرى.
وعلى رغم تبدية «حزب الله» عقيدته على اي اعتبار آخر، إلّا انّه لا يستطيع إهمال العامل المتصل ببيئته التي تشكّل حاضنته ومصدر قوته، واي إرباك يصيب هذه البيئة يصيبه. ولذلك يحرص دوماً على تحصينها واعتماد السياسات التي لا تنعكس سلباً عليها، الأمر الذي يدفعه إلى تجنُّب التناقض بين أولويات دوره وأولويات بيئته. وكل المسار الذي سلكه منذ حكومة الرئيس تمام سلام يدلّ في وضوح الى حرصه على تلافي هذا التناقض، لا بل عندما وجد في الانتخابات النيابية الأخيرة انّ بيئته متململة معيشياً وتحمِّله مسؤولية عدم الاهتمام بالسياسات المعيشية والاجتماعية ومكافحة الفساد، خصّص أمينه العام إطلالة شهيرة وضع فيها مواجهة إسرائيل ومكافحة الفساد على قدم المساواة، ولكنه لم يستكمل هذه المعركة لتناقضها مع المقولة التي تعكس واقع حال وضعه، والتي أطلقها أحد نواب 8 آذار «لنا فسادنا ولكم سلاحكم، لا تقرّبوا من فسادنا لا نقرّب من سلاحكم».
فحرصه على الاستقرار السياسي والأمني والمالي مردّه تحديداً إلى حرصه على بيئته الحاضنة التي ينعكس وضعها على دوره، ومع دخول لبنان في أزمته المالية العابرة للمناطق والطوائف، والتي تشكّل خطراً على البنيان السياسي للبلد، فإنّ الحزب لا يملك ترف مواجهة لا تستطيع بيئته فيها احتضانه، فضلاً عن انّ كل البيئات في لبنان موجوعة، وشريحة واسعة من اللبنانيين موجودة في الشارع، وهيكل الدولة يقف على «صوص ونقطة» من السقوط على رؤوس الجميع، وبالتالي في وضع مثل هذا النوع يتجنّب الحزب المغامرة في وضعية يخسر فيها كل أوراقه بدءاً من بيئته، خصوصاً انّ الناس المعبأة بفعل الوضع الاقتصادي ستجد نفسها في مواجهة مباشرة مع حزب يسرِّع في هلاكها وفقرها وجوعها.
وبما انّ بيئة «حزب الله» لا تستطيع تحمُّل اي حرب يكون مبادراً إليها، وبما انّ البيئة اللبنانية عموماً لا تتحمّل مزيداً من الانتكاسات، وبما انّ أولوية اللبنانيين تحولت معيشية فقط لا غير، وبما انّ الدولة في أضعف لحظة منذ العام 1990، وبما انّ طهران لن تضحّي بأبرز وأوّل تنظيماتها في ردّ على واشنطن تستطيع القيام به مباشرة طالما انّ هذا الردّ لم يبلغ بعد مرحلة الحرب الشاملة، فإنّ الحزب لن يلجأ في هذه المرحلة إلى استخدام لبنان منصّة لاستهداف المصالح الأميركية.
فالوضع المالي المتردّي جداً لا يسمح بانتهاك سياسة «النأي بالنفس» التي تحوّلت أمراً واقعاً، لا إقتناعاً بأنّ الحياد يشكّل أحد مرتكزات هذا البلد، وبالتالي سيكون لبنان في منأى عن المواجهة الأميركية - الإيرانية التي انتقلت من حرب اقتصادية وباردة إلى مواجهة ساخنة. وطالما انّ الأزمة هي مالية بامتياز، فيجب تشكيل الحكومة القادرة على إخراج لبنان من هذه الأزمة، فيما الحكومات السياسية ساهمت في تسريع الانهيار، فضلاً عن انّ الحكومات الاستثنائية التي تستدعي ظروفاً سياسية لتشكيلها تتحقق في بلاد غير منقسمة عمودياً وطنياً وسياسياً. إذ ما أهمية حكومة سياسية او أقطاب طالما انّ محور الانقسام هو بين فريق لبناني يريد تحييد لبنان، وفريق لبناني آخر يعتبر نفسه في صميم المواجهة القائمة؟ وما أهمية حكومة سياسية طالما انّ هذه المواضيع بالذات المتصلة بسياسة المحاور ودور لبنان فيها تؤدي إلى تفجير هذه الحكومة وتعليق جلساتها وتعطيل عملها؟
ومن ثم لم تعد حكومة الأقطاب مطروحة في لبنان بسبب الاعتبار الأمني واعتبارات أخرى، وبما انّ على الوزراء في حكومة سياسية العودة إلى مرجعياتهم في الأمور المفصلية، فلا حاجة لحكومة سياسية، وإذا استدعت الحاجة الوطنية التشاور على أرفع المستويات ففي الإمكان دعوة هيئة الحوار الى جلسة استثنائية، فيما المطلوب اليوم، وأكثر من اي وقت مضى، تحييد المؤسسات عن النزاعات الكبرى بغية تمكينها من إخراج لبنان من ورطته المالية.
وأما التهويل بحكومة سياسية من لون واحد بدلاً من حكومة اختصاصيين من لون واحد، ففي الحالتين ضرب من الجنون، لأنّ المعبر الوحيد نحو شاطئ الأمان المالي والاقتصادي يكمن في تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلّين عن القوى السياسية وتلتزم أجندة واحدة وهي «النأي بالنفس» عن نزاعات الخارج والانكباب حصراً على معالجة الأزمة المالية.