بين حين وآخر كانت إيران تلجأ إلى ارتكاب خطأ مقصود من أجل استفزاز الولايات المتحدة. وإذا ما كانت تلك الأخطاء قد وصلت قمتها حين تم قصف المنشآت النفطية السعودية فإن رد الفعل الأميركي ظل يدور في نطاق البحث عن مخرج قانوني للأزمة.
في المقابل فإن إيران ارتكبت أخطاء غير مقصودة حين فسرت الصمت الأميركي على أساس كونه دعوة للتهدئة وتخطي ما جرى وهو ما دفعها إلى أن تقترح مشاريع وهمية مشتركة للحفاظ على الأمن والاستقرار في الخليج والحيلولة دون انهيار حالة السلم القلق.
سواء كانت أخطاؤها مقصودة أو لم تكن كذلك فإن إيران كانت تمارس ابتزازا علنيا للولايات المتحدة من خلال وضعها أمام خيارين. إما أن تقبل بالسياسات الإيرانية وترجع عن العقوبات التي فرضتها على إيران صاغرة أو أن تقوم إيران بالإضرار بمصالحها في المنطقة وهو ما واجهته الإدارة الأميركية بقدر من التعقل متحاشية إشعال حرب جديدة في المنطقة.
كعادتها لم تفهم إيران رسائل الآخرين إليها في الوقت الذي كانت فيه تعتقد بوجوب أن يفهم الآخرون رسائلها. لغة مزدوجة تتسم بالتعالي والغرور والطيش هي ما أورثته إيران لميليشياتها التي صارت تتعامل بمنطق أن كل شيء قد حُسم لصالحها فصارت ترى في الحضور العسكري الأميركي في العراق نوعا من التجاوز على مناطق نفوذها.
ذلك المنطق هو ما دفع ميليشيات إيران في العراق إلى أن توجه في أوقات سابقة ضربات غير مؤثرة إلى القواعد الأميركية وإلى محيط سفارة الولايات المتحدة. وبالرغم من أن الإدارة الأميركية كانت واضحة في تحذيرها من أن أيّ خسائر بشرية من جراء ذلك القصف ستكون نتائجه وبالا على مَن يتسبب بها، فإن كتائب حزب الله العراقي أصرّت على أن ترتكب الخطأ القاتل الذي أدى في ما بعد إلى أن تقوم الولايات المتحدة بتوجيه ضربات ماحقة إلى معسكرات تلك الكتائب التي هي جزء من الحشد الشعبي الذي يقوده أبومهدي المهندس، أقرب زعماء الحشد إلى قلب ورؤية قاسم سليماني لمستقبل النفوذ الإيراني في المنطقة.
كان من الممكن تفهّم الموقف الأميركي من جهة كونه رد فعل متوقع، لولا أن “المهندس” نفسه أراد أن يصنع له منجزا تاريخيا على مستوى مقاومة الشيطان الأكبر فأمر بمحاصرة السفارة الأميركية ومحاولة اقتحامها من قبل حشد من الغوغاء أعلنوا عن هويتهم الإيرانية من خلال الصور التي حملوها والشعارات التي رسموها على الجدران الخارجية للسفارة.
كان واضحا أن إيران راغبة في الوصول بالتحدي إلى قمته ما دام الأمر يتم بطريقة غير مباشرة. وكان ذلك خطأً في التقديرات نتج عنه أن قامت الولايات المتحدة بتوجيه ضربة نوعية حين اغتالت سليماني والمهندس باعتبارهما المحرضين الأساسيين على العدوان على سفارتها، وهي أرض أميركية. تلك ضربة سوف تضع حدا للسلوك الإيراني المتعجرف وقد تدفع الإيرانيين إلى مراجعة سياستهم القائمة على التحدي. وهو ما يعني أن التصعيد الأميركي لن يقابله كما أتوقع تصعيد إيراني.
لن تحبذ إيران أن يكون مقتل سليماني والمهندس بداية لانهيار مشروعها في العراق. لذلك فإنها ستلوذ بالصمت وتكتفي بإعلان الحداد. فأخطاؤها، المقصودة وغير المقصودة، لن تعتبر بعد التحول النوعي الأميركي في الرد نوعا من الاستفزاز الذي يُمكن التغاضي عنه. ما كان ممكنا بالأمس لم يعد كذلك بعد أن كشفت الولايات المتحدة عن نفاد صبرها وتخليها عن سياستها التقليدية القائمة على الاكتفاء بالعقوبات.
ما وقع سيشكل منعطفا مفصليا في الصراع الأميركي ـــ الإيراني، لا في العراق وحده بل في كل المنطقة. وهو ما دفع إسرائيل إلى أن تنتظر أن تغير إيران سياستها في سوريا بعد مقتل سليماني. لذلك فإن انتظار الرد الإيراني إنما يعبّر عن سوء فهم سعت إيران من خلال تكريسه دعائيا إلى الإيحاء بقوتها وقدرتها على مواجهة القوى العظمى.
من غير مبالغة في التكهن يمكنني القول إن إيران ستدفن غرورها مؤقتا في قبر سليماني.