لن نصدّق أن الأمور ذاهبة إلى الصدام الكبير بين إيران والولايات المتحدة في العراق. لا تقوى إيران على ذلك، ولم يسبق لها أن ذهبت بعيدا في تحدي “الشيطان الأكبر” إلى درجة المواجهة المباشرة مع أقوى دولة في العالم. بالمقابل لا تريد الولايات المتحدة تلك المواجهة، وليس لواشنطن مصلحة في تصعيد غير محسوب، فيما عقوباتها على طهران تعطي مفاعيل كارثية خانقة لم تعد منابر طهران تنفيها.
عراق ما بعد عام 2003 هو عراق الصفقة الخبيثة التي تمت بين الولايات المتحدة وإيران. لم يكن مطلوباً آنذاك إلا إسقاط نظام صدام حسين دون أي مصلحة إستراتيجية أميركية بعيدة المدى. كان الهدف هو صيد فريسة كبرى داخل حفلة صيد تنتعش لها إدارة الرئيس جورج بوش جونيور، ذلك أن الاكتفاء بإسقاط نظام طالبان في أفغانستان لم يكن كافياً للانتقام من فاجعة 11 سبتمبر 2001 الأميركية.
قدمت واشنطن العراق على طبق من فضة إلى طهران. لم تستطع جحافل جيش الخميني أن تفعل ذلك طوال سنين الحرب الإيرانية العراقية (1980 – 1988)، إلى أن تقدم جيش الولايات المتحدة يتبرع بتعديل مسار التاريخ، فيحول كأس سم الهزيمة التي تجرعها الخميني في العراق إلى كأس عسل ما زال نظام طهران يتلذذ به حتى يومنا هذا.وفي ما شهده العراق من تصادم بين أجندتيْ إيران والولايات المتحدة في العراق هذه الأيام ما يُبقي الأمر، رغم مشهديته الدراماتيكية، تحت السيطرة، ومتسقا مع الأجندة الدقيقة للولي الفقيه في إيران وللرئيس المرشح في الولايات المتحدة. تقدم واشنطن ما تملكه من أوراق لرسم خطوط الممكن واللامقبول، فيما تستعرض طهران ما تملكه من نفوذ داخل العراق لرسم ملامح توازن القوى فوق أي طاولة مفاوضات كامنة.
حين أغار تنظيم القاعدة على نيويورك وواشنطن كان بإمكان واشنطن ضرب قواعد تنظيم أسامة بن لادن في أفغانستان أو في أي مكان في العالم. هكذا فعلت، قبل ذلك، حين استهدف التنظيم سفارات الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام عام 1998، أو بعد ذلك حين ضرب المدمرة الأميركية “يو إس إس كول” في ميناء عدن في اليمن عام 2000، واللائحة تطول. لكن واشنطن، حينها قررت تفكيك نظام طالبان في كابول وتفكيك نظام صدام حسين في بغداد. كان الرد مباشراً داخل تلك الدول، ولو أن واشنطن وكل الحلف الغربي اعترفوا لاحقا ببرودة الخبثاء أن ما كيل لبغداد كان كمّا مدبرا من الأكاذيب.
لم تذهب الولايات المتحدة في الأيام الأخيرة إلى حد اتهام إيران مباشرة بالوقوف وراء الهجوم الذي استهدف مواقعها العراقية. اتهمت ميليشيات عراقية تفاخر بالولاء للولي الفقيه في طهران، فأطلقت نيرانها على مواقع تلك الميليشيات مكتفية برد موضعي على اعتداء موضعي. وواقع الحال أن واشنطن حين تقرر يوماً أن العلة في طهران وأن مصالحها مهددة من قبل نظام الجمهورية الإسلامية، فإنها لن تعدم وسيلة لاكتشاف الأدلة والوثائق والبراهين التي تثبت أن نيران الميليشيات العراقية ضد مواقعها إيرانيةُ المصدر والمضمون، عراقيةُ الشكل والإخراج.
لا يبدو أن للولايات المتحدة مصلحة في إحداث أي تغيير جذري في العراق. فالبلد بالنسبة لواشنطن، ووفق ما كان جليا في نظر الرئيس دونالد ترامب، لا يعدو كونه حقول نفط “علينا أخذها”. هكذا باع ترامب للأميركيين تميّزه الكبير فانتخبوه رئيسا، وهكذا يجب أن يبقى. والولايات المتحدة، بهذا المعنى، غير معنية بتشجيع أي تغيير مجهول في العراق على ما يطالب به الحراك الشعبي العراقي منذ شهور. بدا أن واشنطن مرتاحة للعناوين التي تعرفها في العراق منذ قيام النظام السياسي هناك غداة غزو بغداد، وقلقة من موجة الاحتجاجات التي تجتاح مدن العراق، والتي يهدد طابعها الشيعي، إضافة إلى طابعها العابر للطوائف، نظام الفساد والمحاصصة الذي أتاح لواشنطن ما تريده من هذا العراق.
يكرر ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو لازمةً مُملّة حول عدم وجود أي خطط لدى الولايات المتحدة لإسقاط النظام في إيران. تؤمن طهران بهذا الثابت في سياسة الولايات المتحدة منذ عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وتؤمن بصدقية ذلك أكثر في عهد ترامب الحالي. وفق ذلك الثابت الصلب تتحرك إيران شاهرة برشاقة أوراقها في المنطقة، تاركة العنان لمغامرات قواها البحرية في مياه الخليج. فمن لا يخطط لإسقاط النظام في إيران لا يفكر حتماً بإسقاط نظام يوفر لواشنطن مصالحها دون تأخر أو تردد.
تعرف طهران فن اللعبة الدولية. تدرك حدود المحرمات فتبتعد عنها فورا إذا حدث أن مسّها خطأ. جرى أن أحد منابر الحرس الثوري (اللواء مرتضى قرباني) هدد قبل أسابيع بالرد من لبنان ضد إسرائيل إذا ما تعرضت إيران لأي هجوم أميركي. جرى أن طهران تبلغت أو أدركت أن في ذلك خطيئة لا تساهل معها. سارع مستشار المرشد، علي أكبر ولايتي في طهران إلى التبرؤ من التهديد وتصويبه، واعتباره شططا انتزع من سياقه. فيما خرج أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله من بيروت ليصحح “الخطيئة” ويبشر العالم بأن الرد على أي اعتداء يصيب إيران سيصدر من إيران.
وفق قواعد هذه اللعبة تختار إيران منافذ التعايش مع الولايات المتحدة. تستخدم ميليشياتها في العراق تارة، وفي سوريا تارة أخرى وفي لبنان واليمن تارة ثالثة لتسجيل المواقف. لا يهم أن يأتي الرد ضد هذه الميليشيات فيسقط عراقيون وسوريون ولبنانيون ويمنيون وأفغان… إلخ، فتلك عدّة اتفق على استخدامها بين المُرسل والمتلقي. وفي ما تقوم به ميليشيات إيران في العراق من استعراض أمام السفارة الأميركية في بغداد تمرين لا تملك واشنطن الرد عليه ضد السفارة العراقية أو الإيرانية في واشنطن.
تريد إيران استدراج الولايات المتحدة إلى نزال ما في ميدان ما. لا تخسر إيران من زادها الإيراني بل من زاد الآخرين، لكنها مع ذلك تعوّل على امتلاك مفاتيح الخروج من أزمة النار المحتملة بين واشنطن وطهران. نجحت طهران في استدراج رد أميركي أزهق أرواح عراقيين. نجحت طهران في إعادة فرض منطق الميليشيات بصفته روح العراق المدافع عن مواطنيه وسيادته.
تعوّل إيران بتواطؤ أميركي، يجري مقصوداً أو مدفوعاً، لمصادرة ثورة العراقيين وتجريدها من شرعيتها المتنامية. كان أن احتل طلبة إيرانيون سفارة الولايات المتحدة في طهران واحتجزوا العاملين فيها رهائن لمدة 444 يوماً (4 نوفمبر 1979 – 20 يناير 1981). أراد نظام طهران حينها إشغال العالم بورشة خارجية، فيما أجهزته تفتك بأي معاندة داخلية وتثبت جذور نظام الولي الفقيه. قد تذهب إيران بعيدا هذه المرة لاستعادة عراقها من أمام السفارة الأميركية في بغداد.
ترامب اكتشف في تغريدة أن إيران وراء الهجوم على قوات بلاده. ولا نعتقد أن اكتشافه سيغير من قواعد اللعبة، وحدهم العراقيون من بيدهم يوما ما تغيير اللعبة واللاعبين.