ليست الأزمة العراقية في طريقها إلى الحل، بالرغم من مضيّ حوالي ثلاثة شهور على الاحتجاجات غير المسبوقة في التاريخ السياسي العراقي. تلك الأزمة مرشحة للمزيد من التعقيد.
طرفا الأزمة لن يتراجعا خطوة إلى الوراء، ولن يقدما تنازلات ستبدو كما لو أنها توقيع على بياض هزيمة لا حدود لتداعياتها.
كل واحد منهما سيبقى متمسكا بشروطه من أجل أن تبقى جبهته متماسكة، وهو ما يمكن أن يقود إلى التشدد في ظل غياب وسيط معتدل بين الطرفين اللذين لا يثق أحدهما بالآخر.
لا يمكننا هنا الحديث عن حكومة عراقية. فتلك جهة لا وجود حقيقيا لها بعد أن استقال رئيسها وذهبت إلى الخفاء.
الأحزاب التي كانت تدعم بقاء الحكومة المستقيلة ظهرت على الواجهة باعتبارها الطرف الذي يمثل جبهة القوى الحاكمة. ذلك أمر غير مسبوق هو الآخر. فليس من الطبيعي أن تحلّ أحزاب يُفترض أن حركتها مقيدة بحدود دائرة تمثيلها البرلماني محل السلطة التنفيذية، ولا يمت إلى السياسة بصلة أن تقوم تلك الأحزاب بفرض إرادتها على الشعب الذي لا تزال تدعي أن شرعية وجودها في الدولة مستمدة من أصواته الانتخابية.
وإذا ما كانت تلك الأحزاب ممتنعة حتى الآن عن التعامل مع مطالب المحتجين بطريقة محترمة بحيث أن أصوات المحتجين تبدو كما لو أنها لا تصلها، فإن الشعب على الضفة الأخرى لا يجد بأسا في الرد بالرفض على الاقتراحات التي تتقدم بها الأحزاب.
لا يزال المحتجون حتى هذه اللحظة يتعاملون باحترام مع الأحزاب التي كان وجودها في الحكم سببا مباشرا في تدمير وطنهم وسحق مواطنتهم وتبديد ثرواتهم الوطنية. ويمكن ردّ ذلك التعامل إلى مبدأ “السلمية” الذي نجحوا في الحفاظ عليه بالرغم من كل عمليات القهر والقتل والقمع والمطاردة التي مارستها الأجهزة الأمنية والميليشيات التابعة للأحزاب.
تظهر الأحزاب من خلال مزاد الترشيحات الذي أقامته استعلاءها على الشعب، بالرغم من أن كل الوقائع تؤكد أنها لم تعد قادرة على مغادرة حالة الصفر الحراري التي وصلت إليها بتأثير مباشر من الاحتجاجات.
كان من المتوقع أن تنتهي الأمور إلى قطيعة من ذلك النوع.
فالأحزاب التي أدارت الدولة عبر ستة عشر عاما من غير أن تتعرض للمساءلة ونجحت في توطين الفساد وتطبيعه داخل دائرة حركتها لا يمكنها أن تعود إلى الوراء لتصدق أن الشعب هو فعلا مصدر السلطات.
تلك كذبة وافقوا عليها يوم كانوا يسعون إلى السلطة. أما وقد صارت السلطة مُلك أيديهم فإن انفصالهم عن الشعب كان أمرا مستلهما من تربيتهم الحزبية حين كانوا يهيئون أنفسهم للانتقام من المجتمعات التي سبق أن طردتهم وتخلت عنهم في السابق.
أما الشباب في ساحات التظاهر فإنهم على يقين من أنهم يملكون الحق في التغيير. وهم لا يحتاجون في ذلك إلى استفتاء وبالأخص على مستوى شرعية وجودهم. فإذا كانت الأحزاب في حاجة إلى صناديق اقتراع تكتسب من خلالها شرعيتها، فإن الشعب لا يحتاج إلى شيء ليؤكد من خلاله حقه في أن يفرض نمط الحياة الذي يليق به.
تلك المسافة الهائلة التي تفصل بين الطرفين هي العقدة التي يمكن من خلالها الحكم بأن الأزمة لن تكون في طريقها إلى الحل إلا إذا تهاوت مقاومة أحدهما.
وقد لا يصدق البعض أن الأحزاب لا تزال تعتقد أن في إمكانها أن تهزم الشعب. ذلك شعور سيرافقها حتى الهزيمة.
تلك ثقة تعبر عن انحدار القيم السياسية لدى تلك الأحزاب التي صار العراقيون، من جهتهم، على يقين من أن وجودها في الحكم لا يليق بهم ولا ببلدهم.