على حافة الخطر، تبدو مهمّة الرئيس المكلّف حسّان دياب. فكثيرون اعتقدوا أنّه سيؤلّف الحكومة سريعاً، في أحضان القوى التي «تَحَدَّت العالم» وعمدت إلى تسميته. لكن الرجل يبدو في حقل ألغامٍ داخلية وخارجية. وعلى رغم إصراره على التقاط الفرصة المتاحة، ثمة مَن يتوقع له أن يُردِّد: «لو أني أعرف خاتمتي... ما كنت بدأت»؟
 

لم يكن متوقعاً أن يُصرُّ رئيس الجمهورية ميشال عون على إجراء الاستشارات في ذلك الخميس الدراماتيكي، خصوصاً أنّها كانت منقولة من يوم الإثنين بداعي فقدان الميثاقية مسيحياً، وبناء على طلب الرئيس سعد الحريري.
 
وكذلك، لم يكن متوقعاً أن يتمّ الردّ على الحريري بحفظ الميثاقية المسيحية مقابل تجاوز الميثاقية السنّية، علماً أنّ موقع رئاسة الحكومة للسنّة، لا المسيحيين.

 

حتى في نهار الاستشارات، بقي البعض يعتقد أنّ فريق السلطة لا يريد من هذه المناورة إلا هزّ العصا للحريري لكي يتراجع عن «عناده» وتمسّكه بحكومة تكنوقراط صافية. والسيناريو الذي تخيَّله هؤلاء هو الآتي:

 

يحصل دياب على الغالبية النيابية، لكن عون يحتفظ بالنتيجة ويعلّق التسمية، بسبب فقدان الميثاقية التي يقول بها الدستور نصّاً وروحاً. ثم تنطلق مشاورات سياسية بين المرجعيات لتحديد الخيار المناسب.

 

في تقدير هؤلاء، أنّ الحريري كان سيتلقّى في هذه الحال إشارة مفادها أنّ البديل السنّي جاهز، إذا تمادى في «الدلع». وسيضطر إلى تليين موقفه والقبول بتمثيل للقوى السياسية، وفق ما عرض عليه الرئيس نبيه بري أخيراً.

 

لكن ما حصل هو أنّ عون مضى في تسمية دياب على رغم الاعتراض السنّي. فكان ذلك مفاجأة بالمعيار التقليدي للممارسة السياسية - الطائفية في لبنان.

 

هناك مَن يقول إنّ الهدف هو «التخلّص» من عبء الحريري الذي صار «مزعجاً» لفريق السلطة في الأسابيع الأخيرة. ولكن ليس مستبعداً أن يكون في الأمر مناورة أخرى للضغط على الحريري. وربما هو يعرف ذلك، ولذلك لا يقدّم التنازلات. وعلى العكس، هو ينتظر من فريق السلطة أن يتنازل، إذ لن يجد بديلاً يحظى بتغطية الطائفة ودار الفتوى.

 

ويرى قريبون من الحريري، أنّ شعار «الميثاقية بالتأليف لا بالتكليف» لا يُقنع أحداً. فالرئيس المكلّف له موقعه التقريري في التأليف، ثم في إدارة أعمال الحكومة. ولا يمكن اعتباره مجرد «ناظر». ويسألون: هل يقبل المسيحيون مثلاً برئيس للجمهورية من خارج المعيار الميثاقي مع وعدٍ بمراعاة الميثاقية في الحكومة؟ وهل يقبل الشيعة مثلاً برئيس للمجلس من خارج الكتلة الشيعية الوازنة، لمجرد أنّ الميثاقية قائمة داخل المجلس؟

 

في اعتقاد البعض أنّ هناك تبايناً داخل فريق السلطة إزاء التعاطي مع الحريري. فالجميع يريده أن يبقى في السراي الحكومي، لكن المنطلقات والمصالح تتباين بين «الثنائي» وعون عند نقاط معينة.

 

فالرئيس عون والوزير جبران باسيل لا يضيرهما أن يخرج الحريري من السلطة بعدما أخرج نفسه من «حضانتهما» المستمرة منذ بداية العهد، وخصوصاً في يوم أزمته الشهيرة في تشرين الثاني 2017. وأما «الثنائي الشيعي» فهو يتمسّك بالحريري من منطلقات براغماتية، لأنّ لا بديل منه في هذه الظروف، لا بالتغطية السنّية داخلياً ولا بالتغطية الخارجية.

 

ويعرف «الثنائي» أنّ الحريري، على رغم ما يُقال عن «احتراق» رصيده دولياً وعربياً، يبقى الأقدر على استقطاب الدعم الخارجي في اللحظات الحرجة مالياً واقتصادياً. وفي عبارة أخرى، إنّ «ترميم» رصيد الحريري لدى القوى الدولية والعربية يبقى أسهل للبنان من بناء علاقةٍ بين رئيس جديد للحكومة، لا يعرفه أحد في الخارج، ولم يجرِّبه، وجاء بتكليف من لونٍ واحد ليشكّل حكومةً هي في الواقع حكومة اللون الواحد.

 

لذلك، لا يُستبعد أن يكون في أجندة فريق السلطة، ولا سيما منه «الثنائي الشيعي»، احتمال العودة إلى الحريري. وتالياً، ليس واضحاً إذا كانت القوى التي سمَّت دياب تختلف معه اليوم فعلاً حول التشكيلة، كما يبدو في الظاهر، أم هي ترفع السقف في وجهه لتضطره إلى الاعتذار بعد أن تنضج الاتصالات مجدداً مع الحريري؟

 

ولكن، سواء بالحريري أو بدياب أو بسواهما في موقع رئاسة الحكومة، فإنّ مأزق قوى السلطة الحقيقي هو: كيف ستتمكن من تشكيل حكومة تحتفظ فيها بالنفوذ وتتجنّب الانهيار في الوقت عينه؟

 

ويدرك دياب أنّ قبوله بحكومة تكنوقراط «مزوّرة» سيقود البلد إلى الهاوية، إذ إنّ أحداً لن يقدّم إليه الدعم ما لم يستجب للمعايير المطلوبة منه منذ مؤتمرات باريس الأولى حتى «سيدر». ولا يرى دياب أن له مصلحة في دخول نادي رؤساء الحكومات كبش محرقةٍ لأيام قليلة أو أسابيع لا أكثر.

 

لهذه الاعتبارات، سيكون «الثنائي الشيعي» مضطراً إلى التنازل عن مقدار من النفوذ في الحكومة العتيدة، أياً كان رئيسها. وأما دياب فيحاول الهرب من الانتحار الذي ينتظره بالإصرار على حكومة التكنوقراط الموعودة.

 

ومع هذا الإصرار، يصبح السقف الذي وضعه دياب لتشكيل الحكومة مساوياً للسقف الذي وضعه الحريري. وفي هذه الحال، أي مبرِّر ليتمسّك به «الثنائي الشيعي»؟

 

ربما هذا ما يدفع البعض إلى القول: الحريري راجع. ويقول القريبون من «بيت الوسط» هذه الأيام: «عظيم. نحن خارج المشهد، ولا نطالب بشيء. حُلّوها لنشوف إذا بتقدروا».

 

وهكذا تبدو إجازة الحريري في باريس «ملغومة» فعلاً. فالوقت الذي حدَّده دياب لنفسه لكي يؤلف الحكومة يكاد ينفد، فيما بداية السنة تبدو محقونة بكثير من عناصر الضغط والتفجير والانهيار، خصوصاً في المال والاقتصاد.

 

وثمة مَن يتوقع انفجاراً للشارع الذي أعطى الطاقم السياسي فرصة في الأعياد، ما يُنذر بعملية خلط أوراق جديدة.