فجأة بات ثمة مؤتمر لما سمي “عشائر ووجهاء فلسطين”، بحسب البيان الصادر عن ذلك الاجتماع قبل أيام في مدينة الخليل يوم 21 ديسمبر، لمناهضة اتفاقية “سيداو” الأممية، التي تدعو إلى وقف كل أشكال التمييز ضد المرأة، والتي وقّعت عليها السلطة الفلسطينية. ثمة عدة مشكلات في البيان المذكور، أهمها:
أولا، أنه محاولة لإحلال الهويّة العشائرية والانتماء العائلي وعلاقات القرابة، محل الهوية الوطنية والانتماء المجتمعي والعلاقات المدنية، بما يعنيه ذلك من محاولة لتقويض أو تمزيق الإنجازات الوطنية التي تحققت بفضل كفاح الفلسطينيين وتضحياتهم، طوال القرن الماضي، لفرض ذواتهم كشعب، إزاء عدوهم، وفي إدراكاتهم لذواتهم ولمصيرهم المشترك.
ثانيا إن البيان المذكور يصبّ في طاحونة إثارة التناقضات الداخلية في المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال، وهو أمر بالغ الخطورة، في وقت يفترض فيه تعزيز الجهود لاستنهاض قواه، وتعزيز قدراته، لتمكينه من مواجهة سياسات إسرائيل، وضمنها سياسات التهويد وتعزيز الاستيطان ومصادرة الأراضي، لاسيما في مدينة القدس وفي مدينة الخليل ذاتها.
ثالثا، تستعيد لغة البيان الخطابات التكفيرية، أو الظلامية، التي تتعمَد استغلال الدين، وإقحامه في السياسة، في محاولة لتقسيم المجتمع، وتمكين البعض من ادعاء الوصاية على المجتمع، من دون أي وجه حق، بل واعتبار ذواتهم خارج المساءلة والمحاسبة، بدعوى الشرع أو الشريعة، كأنهم وكلاء عن الذات الإلهية، ما يشوه الدين ذاته، ويساهم في زعزعة التوافقات الوطنية في المجتمع. ولعله ليس من قبيل الصدفة انكشاف حقيقة ذلك البيان الذي تحكم في صياغته حزب “التحرير” الإسلامي، مستغلا أو منتحلا اسم مؤتمر عشائر فلسطين، كدريئة يتغطىَ بها.
رابعا، يشكل البيان محاولة للانقضاض على المجتمع المدني الفلسطيني، وعلى الإنجازات التي راكمتها المرأة الفلسطينية بانخراطها في الكفاح الوطني والتحرري، طوال العقد الماضي، بدعوى الدين، أيضا، وبدعوى مراعاة الخصوصيات الثقافية والعادات، في حين أن الاتفاقية المذكورة تركز أساسا على تمكين المرأة، وتعزيز دورها، في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وضمن ذلك حقها في المساواة مع الرجل، وفقا لحقوق الإنسان، التي لا تتعارض مع صحيح الدين، ومع التطورات الحاصلة في المجتمع.
والمعنى أن البيان انتقد الاتفاقية لهذا الأمر بالذات، وضمنه لتحديدها سن الزواج بـ18 عاما، على الأقل، وليس لبعض الأمور الثانوية التي يمكن إيجاد تشريعات خاصة لها بحسب كل حالة وفقا للقوانين الخاصة بكل دولة. والجدير ذكره أن الاتفاقية المذكورة وقعت عليها 189 دولة من 197 دولة، منها 54 دولة من منظمة التعاون الإسلامي من 57 دولة، و20 دولة عربية (من 22 دولة عدا الصومال والسودان).
وبشكل عام فإن انعقاد مؤتمر كهذا، بغض النظر عن مدى تمثيله، وصدور هكذا بيان عنه، هو بمثابة جرس إنذار، أو بمثابة تحدّ للحركة الوطنية الفلسطينية، أي لمنظمة التحرير والسلطة والفصائل، وللمجتمع المدني الفلسطيني، والمنظمات الحقوقية، ما يتطلب منها جميعها إجراء مراجعة نقدية ومسؤولة لدورها ولمسيرتها، مع علمنا أن مثل ذلك ما كان يمكن أن يحصل لو أن الحركة الوطنية الفلسطينية كانت بكل حيويتها وعافيتها.
والحقيقة فإن غياب الروح والعلاقات والقيم الوطنية هو الذي يؤدي إلى استيقاظ الروح والعلاقات والقيم العشائرية، أو ما قبل الوطنية، بمعنى أن ما حصل هو نتيجة تدهور الحركة الوطنية الفلسطينية، ونتيجة تهميش منظمة التحرير، والتحول إلى سلطة في ظل الاحتلال، ونتيجة الفجوة بين السلطة وشعبها، وهو أخيرا نتاج إبعاد الشعب عن السياسة، واحتكار العمل السياسي من قبل فصائل هرمة ومتآكلة ومتكلسة، ولم يعد لديها ما تضيفه، ونتاج الافتقاد إلى برنامج إجماع وطني.
في هذا المقام فإن الأمر لا يقتصر على بيان العشائر المذكور فحسب، إذ أن الأراضي الفلسطينية المحتلة شهدت في الأشهر الماضية العديد من المواقف التي تتناقض مع الروح الوطنية التحررية، وضمن ذلك منع مسرحيات وفرق غنائية في الضفة وغزة، لأسباب يتم إحالتها إلى الخصوصيات المحلية، وإلى الدين، وهذا يشمل وزارة الثقافة الفلسطينية التي منعت عرضا راقصا لفرقة فلسطينية من الناصرة، في رام الله، بدعوى عدم ملاءمة الملابس!
باختصار، فإن ذلك كله ما كان ليحصل إبان صعود الحركة الوطنية الفلسطينية في السبعينات، أي أنه يحصل الآن بسبب أفولها، وهذا ما ينبغي إدراكه والعمل على تداركه.