رئيس الوزراء هُزم فاستقال. رئيس الجمهورية انتصر فاستقال. لم يبق سوى رئيس مجلس النواب في منصبه محنّطا وهو منصب يُقال إنه أنفق عليه أكثر من مليون دولار.
استقال رئيس الوزراء لأنه كان الخطأ في الحساب. أما الرئيس فإنه استقال لأنه الاختيار الصحيح. أما رئيس مجلس النواب فإنه لن يغادر منصبه حتى يُطرد. ذلك لأن الرجل لا يمتّ إلى معادلة الخطأ والصواب بصلة.
ما يلفت النظر أن جبهة الممانعة والمقاومة التي يترأسها نوري المالكي الذي سبق له أن حكم العراق ثماني سنوات صارت في حيرة من أمرها وهي تراقب مقاومة من نوع آخر تتشكل في الشارع العراقي.
تلك هي مقاومة الحقيقة التي فشل الواقع السياسي في فرض إملاءاته عليها بل صارت شروطها بمثابة مرجعية لا يمكن تجاوزها.
مشكلة جبهة الممانعة المرتبطة بإيران أنها لا يمكن أن تتصور وجودها من غير سلطة. في المقابل فإن مقاومة الشارع التي صنعها المحتجون لا تحتاج إلى أن ترتبط بأيّ دولة لتخلق سلطتها.
خلق المحتجون الشباب واقعا يشبه الحقيقة في حين كان الواقع الذي فرضته الأحزاب يتناقض تماما مع الحقيقة.
حين نظر رئيس الجمهورية من نوافذ قصر السلام لم ير سوى لافتات الاحتجاج. ولأنه اجتهد في فهم الدستور فإنه أدرك أن ساعاته الحاسمة في الحكم ينبغي أن تقدمه رجل حقيقة إذا كان عاجزا عن أن يكون رجل حلّ. وهو ما انحاز إليه.
لا يعني في شيء أن الرجل كان صادقا، غير أنه كان سياسيا بامتياز. لم تكن استقالته هروبا إلى الأمام كما تصوّر البعض. فالرجل مستقبله السياسي ليس في بغداد غير أنه كان مخلصا في أداء واجبه.
لا تزال هناك مفاجآت. الخاسرون لم يعلنوا عن مزادهم العلني وليس هناك من فائز. لا يزال الرابحون قيد المفاجأة. وهم أشبه بالأحداث في سوق السياسة. لذلك استخفّ بهم السياسيون بعد أن استعلوا عليهم زمنا طويلا. غير أن تخيّل أن كل شيء لا يزال في مكانه هو نوع من الخضوع لعمى مستفحل لا يمكن علاجه.
مَن هو المهزوم ومَن هو المنتصر في ما يجري في العراق؟
ذلك سؤال خفي لا يفكر فيه طرفا المعادلة اللذان صارا كذلك اضطرارا وليس لأنهما قرّرا أن يكونا كما هما اليوم. ولكن جبهة الممانعة والمقاومة لا تزال قائمة. تلك الجبهة لم تؤسس إلا باعتبارها خيارا وحيدا ضد أميركا وإسرائيل. ولكن الواقع أزاح القناع عن وجه مختلف.
فلا أميركا ولا إسرائيل على الضفة الأخرى من نهر دجلة. هناك الشعب يقف محتجا تحت نصب الحرية في ساحة التحرير.
لا يصدق عرابو العملية السياسية في العراق أن صراعهم صار محليا. فهم أصلا لا يعترفون بالعراق وطنا. أما رأيهم بالعراقيين فهو ما يتعفف المرء عن ذكره. تلك واحدة من كوارث العراق الجديد.
لقد انتهى العراقيون إلى حقيقة أن مَن كان يحكمهم لم يكن يراهم.
حين فتح حكام العراق أعينهم مضطرين اكتشفوا أن هناك شعبا. ذلك الشعب صار في إمكانه أن يقيل رئيس الوزراء ويدفع رئيس الجمهورية إلى الاستقالة وهو ينظر باستخفاف إلى السلطة التشريعية لأنها لا تفهم شيئا في ما أوكل إليها.
لقد استعاد ذلك الشعب في لحظة وعي قدرته على أن يكون مرجع السلطات. وكما لم يكن متوقعا فإن السلطات كلها عادت إلى الشعب.
اليوم العراق هو عراق آخر. عراق لا يشبه في شيء ذلك العراق الجديد الذي أقامه الأميركان على ركام الدولة العراقية. كانت هناك كذبة العراق الجديد انتصر عليها العراق الحقيقي.