إستسهل الرئيس ميشال عون الاستغناء عن تحالفه مع الحريري لمجرّد انّ رئيس «المستقبل» قرر الاستقالة ولو المتأخرة استجابة لمطالب الناس ورفضاً لأن يكون في مواجهة مباشرة معهم، ولم يأخذ في الاعتبار انّ للحريري بيئته المنتفضة مع الناس والتي من غير مصلحته معاكستها، وبدلاً من أن يتفق معه على مساحة مشتركة تصبّ في مصلحتهما معاً اعتمد سياسة إحراجه لإخراجه وكأنه يملك ترف الاستغناء عن شريك سني لا بديل عنه في الوقت الحاضر.
ففي إمكان العهد مثلاً أن يستغني عن التحالف مع «القوات اللبنانية» بالارتكاز على تمثيله الشخصي، كما في إمكانه ان يستغني عن التحالف مع «الحزب التقدمي الإشتراكي» على رغم صعوبة ذلك كون النائب طلال ارسلان لا يمثِّل الوجدان الدرزي الذي تمثّله الحالة الجنبلاطية، ولكن ليس في إمكانه الاستغناء عن الشريك السني الممثّل لبيئته في رئاسة الحكومة واستبداله بشخصية دخلت إلى السراي الحكومي من باب القصر الجمهوري لا «بيت الوسط».
فكيف سيتمكن عون من الحكم وهو في مواجهة مع ثلاثي «المستقبل» و«القوات» و«الإشتراكي» ومع الناس وفي ظل وضع مالي كارثي وغياب الثقة الدولية؟ وليس تفصيلاً أن تفتقد حكومته العتيدة إلى الغطاء الشعبي والسني والدرزي وشريحة واسعة من المسيحيين، إذ في أوقات عادية تكون حكومة من هذا النوع مأزومة، فكيف بالحري في أوقات استثنائية تستدعي رَص الصفوف لا التفرقة.
ويبدو انّ الحريري قرر هذه المرة ان يُبدّل في أسلوب مواجهته خلافاً للمرة السابقة عندما أسقطت حكومته فابتعد في عزلة إلى الخارج، وهذا التبديل مرده إلى الأسباب الآتية:
ـ السبب الأول، شعوره انّ ما هو ممكن اليوم لجهة تغيير الوقائع وقلب الطاولة كان متعذراً في الأمس، ولذلك فَضّل الانكفاء، وبما انّ التغيير أصبح متاحاً اليوم قرّر المواجهة.
ـ السبب الثاني، إستناده إلى الشارع المنتفض منذ ١٧تشرين الأول والذي لن يعطي ثقة لحكومة يؤلفها الوزير جبران باسيل، وهجومه على باسيل واتهامه بتشكيل الحكومة يدخل في هذا السياق تحديداً لناحية شيطنة حكومة الرئيس المكلف حسان دياب سلفاً، خصوصاً انّ الحريري يدرك حساسية الشارع ضد باسيل فقرر مَده بالزخم المطلوب، ويكون بذلك أيضاً في موقع القريب من هذا الشارع.
ـ السبب الثالث، إرتكازه الى البيئة السنية من دار الإفتاء التي لم تستقبل الرئيس المكلف، إلى رؤساء الحكومات، وما بينهما الشارع السني الذي يعتبر انّ تكليف دياب تم بعيداً عن الميثاقية التي كان باسيل يتغنى بها.
ـ السبب الرابع، كون الرئيس المكلف لا يحظى بالغطاء السني وتم تكليفه على قاعدة انقسامية وطنياً ويواجه أصعب أزمة اقتصادية عرفها لبنان، والشروط الموضوعة عليه في التأليف ستؤدي إلى تفشيله.
ـ السبب الخامس، كون عون في أضعف لحظة منذ وصوله إلى القصر الجمهوري، فعدا عن الأزمة المالية التي ليس في إمكانه مواجهتها من دون تحالفات وطنية وثقة خارجية، يضع نفسه في مواجهة مع الجميع باستثناء الثنائي الشيعي.
ـ السبب السادس، لأنّ الحريري يعرف انّ الثنائية الشيعية كانت تفضِّل تكليفه وقبلت على مَضض تكليف دياب، وانّ إسقاط دياب سيعيد الحريري إلى السراي الحكومي، فضلاً عن معرفته أن أكثر من طرف داخل 8 آذار لديه مصلحة بمزيد من إضعاف العهد وصولاً إلى إسقاطه.
فرئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية مثلاً من مصلحته التخَلّص من العهد اليوم، في اعتبار انّ اللحظة الخارجية انتظارية ورمادية وما يمكن إمراره اليوم قد يصعب غداً، وتحديداً بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، كما انّ حظوظ باسيل الرئاسية معدومة، ولا بديل لدى «الثنائي الشيعي» غيره، وسيحظى بدعم الحريري الذي كان رشّحه أساساً وسيجدد دعمه له بعد ان انكسرت الجرة مع العهد.
ـ السبب السابع، كون عواصم القرار الغربية والعربية لا تهتم لأشخاص بمقدار اهتمامها بوضعية سياسية معينة، والوضعية التي كلفت دياب غير مشجعة. وبالتالي، لن تساعد لبنان في حال تشكيله حكومة مَركز القرار فيها يتراوح بين باسيل و«الثنائي الشيعي».
فلكل هذه الأسباب مجتمعة وغيرها قرر الحريري أن ينتقل من المهادنة إلى المواجهة، ومن التبريد إلى التسخين، متكئاً الى انّ خصمه غير محصّن مالياً ولا شعبياً ولا سياسياً ولا وطنياً ولا خارجياً، خصوصاً انّ المواجهة لا تتم على قواعد سياسية، بل مالية واقتصادية، وبالتالي قرر عدم التسليم بنتيجة إخراجه من السراي.
والورقة الوحيدة التي يملكها العهد في مواجهة الحريري هي تأليف حكومة اختصاصيين، وهذا ما جعل عون يبدّل في موقفه من إصراره على تشكيل حكومة تكنو-سياسية رفض الحريري تشكيلها، إلى إعلانه من بكركي انّ الحكومة العتيدة ستكون من اختصاصيين، لأنّ حكومة من هذا النوع هي الوحيدة القادرة على إرضاء الشارع العابر للطوائف كما الشارع السني، وإرضاء القوى السياسية المتمسّكة بتشكيل حكومة اختصاصيين، وإرضاء أيضاً عواصم القرار التي تفضِّل حكومة بعيدة عن القوى السياسية وتحظى بثقة الناس.
فإذا نجح العهد في تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلّين ينتزع من الحريري كل الأوراق التي في إمكانه استخدامها ضد العهد والحكومة العتيدة، لأنّ حكومة الاختصاصيين تشكل عنوان المرحلة المالية والشعبية، ويصبح الحريري حينها في حاجة لوضع بنك أهداف جديد من أجل عودة قوية إلى الساحة، خصوصاً بعد ان تضررت علاقاته داخل بيئته وعلى المستويين الوطني والخارجي، فضلاً عن انّ نجاح الحكومة العتيدة قد يحوِّل الحكومات المقبلة وتحديداً رئيسها الى القاعدة المطلوبة لإدارة البلاد.
ولكن السؤال الأساس الذي يطرح نفسه: هل العهد في وارد تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين يتخلى فيها عن نفوذه وإمساكه بالوزارات الأساسية بدءاً من وزارة الطاقة، ام انّ الحكومة التي يتحدث عنها هي في الشكل حكومة اختصاصيين، ولكن في المضمون سيختارهم باسيل الذي يتحكم بقراراتهم؟ وهل المواجهة بين العهد والحريري تدفعه فعلاً إلى تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين؟ وهل «الثنائي الشيعي» يقبل بحكومة من هذا النوع ربطاً بالوضع المالي المتأزِّم؟ وهل وصل العهد إلى اقتناع بأنّ حكومة الاختصاصيين المستقلين هي فرصته الأخيرة لينقذ نفسه، لأنّ الحكومة الأخرى ستولد ميتة وستنتقل الأزمة إلى حضنه؟