كان بديهياً أن يتأثّر الشِّعر الأندلسي بالشِّعر الأمّ القادم من الشرق. وربما توقّع البعض أن يتجاوز الشِّعر القديم ويتنقّى من بعض مثالبه، لكنه ظلّ نسخة عنه، كما يقول الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقة، أستاذ الآداب في جامعة عنابة. ومن العيوب، المبالغة في المديح، إذ يباشر به بعض الشعراء من دون توطئة كما هو معهود. ويُذكر أن هلال البياتي مدح ابن حمدين قاضي قرطبة بقصيدة استهلّها بالمدح، فقال له القاضي: «ما هذا الوثوب على المدح من أوّل وهلة، ألا تدري أنهم عابوا ذلك كما عابوا الطول أيضاً، وأن الأَولى التوسّط؟».
ورغم أن شعراء الأندلس عاشوا في بيئة من الخضرة والأنهار، فقد شعروا بالحنين إلى ديار آبائهم، وامتدحوا الفلاة والناقة والبادية. وعلى جري آبائهم، كانوا يختمون قصائدهم المدحية غالباً بكلمة إهداء إلى الممدوح، وما خلت من التملّق والاستعطاف والخنوع.
يقول الدكتور بوفلاقة إن معظم المدائح كانت موجّهة إلى ملوك الأندلس وأمرائه، وهو ما يلاحظه بطرس البستاني في كتابه «أدباء العرب في الأندلس وعصر الانبعاث» (دار الجيل). ويقسّم بوفلاقة المدح في الأندلس إلى قسمين: الصفات التقليدية التي تستهوي الممدوح، كالشهامة والكرَم، والثاني، وصف انتصارات الممدوحين واعتبارها نصراً عظيماً للإسلام والمسلمين. ودائماً يبذل شاعر المدائح جهداً واضحاً في انتقاء الكلمات، بين الجزالة والفخامة والرقّة والسهولة.
اتّخذ الدكتور بوفلاقة الشاعر ابن دراج القسطلي نموذجاً لدراسته في هذا الباب. وبحث عن الأسباب التي تسوّغ أو تبرّر المغالاة في المدائح عند الشعراء. فابن دراج، على سبيل المثال، كان من عائلة ذات سلطان، قبل أن يحطّ به الدهر. ولذلك مهّد لقصيدته بشيء من التعليل. صوّر بأسى وداع زوجته وسفره إلى الممدوح، وهي ظاهرة قد لا يشاركه فيها شاعر عربي آخر، ولعلّ من أسباب ذلك تلك الظروف الخاصة التي أحاطت بابن دراج من شدّة حساسيّته بأولاده إلى قسوة الأيام عليه وعليهم؛ فمن يتتبّع مسار ابن دراج القسطلي يُرجع غلبة المدح على شعره إلى أن هذا الشاعر عاش تحت إلحاح ظروف معيّنة؛ فقد بدأ حياته الفنّية، وختمها، شاعراً رسميّاً، يعمل في خدمة الحكّام والرؤساء، من المنصور بن أبي عامر، إلى يحيى بن المنذر التيجيبي، وبعض ظروفه ترجع إلى أحواله الخاصة، وبعضها يرجع إلى الأحوال العامّة التي سادت في عصر الشاعر، وقد كان أجداده من سادة بلدة قسطلة وحكّامها، أي أنه ألف العيش الرغد والحياة الناعمة، ويبدو أن سلطان قومه قد ذهب، وانتقلت رئاستهم للأوضاع إلى غيرهم. ومعروف أيضاً أن ابن دراج كان ذا عيال عديدين وأسرة كثيرة التكاليف وثقيلة المسؤوليات. ويرى بوفلاقة أن هذا هو السبب الأساسي لانصرافه إلى المدح، إضافة إلى تخوّفه من الحملات التي تعرّض لها بين الشعراء، وخصوصاً تهمة الانتحال.