ليست المرة الأولى التي تُسخّر فيها كل الطاقات الإعلامية والسياسية ووسائل التواصل الإجتماعي لإمرار المرحلة التي سمي فيها دياب رئيساً مكلفاً تأليف الحكومة الجديدة، والتي تلتها. فهناك كثير مما يجب ان يقال لتحصينه وتقوية موقعه في المعادلة الجديدة، بعدما أصيبت الطائفة السنية بنسبة كبيرة من الإحباط نتيجة التعاطي مع الرئيس المكلف وعملية «الإخراج القسرية» التي أدّت الى تسميته في غفلة من الزمن، وفي مهلة قياسية لم يخضع فيها لأي اختبار طائفي كتلك الاختبارات التي خضعت لها الشخصيات السنية الأخرى، الى حين إهلاكها واحتراقها واحداً بعد آخر.
ليس في ما يُقال ما يمكن نفيه بسهولة، فكل الوقائع المعلن عنها تَشي بكثير لإثبات هذه القراءة بكثير من الواقعية والجدية، وبكثير من الإثباتات التي لا تُنفى بسهولة. فالعارفون بكثير من التفاصيل يدركون جيداً حجم الجهود التي بذلها فريق متناغم يُمسك بالسلطة من مفاصل عدة وأساسية كان يعرف ما يريده منذ أن «فاجأهم» رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري باستقالته في 29 تشرين الأول الماضي، واتهامه بالخروج عن الإجماع الذي كان يحوط به واعتبار خطوته تجاهلاً لحلفائه من أهل السلطة؟ وقد تناسوا حجم الخلافات التي تفاقمت بين أهل الحكم والحكومة وقادت الى هذا الموقف، قبل ان يقول الحريري انّ استقالته كانت استجابة للانتفاضة الشعبية.
لا يتناسى كثر من العارفين انّ الحريري قدّم للانتفاضة أوّل هدية على طبق من ذهب، وذهبَ بموقفه الى النهاية التي وضعته الى حد ما الى جانب الإنتفاضة، وهو ما سَهّل على معارضيه من أهل الحكم على إلباسه مهمة التحريض على كل الحراك وتجنّبه استخدام القوة مع المنتفضين، محاولة تلبيسه مفاعيل الضربة المالية والإقتصادية التي عاشتها البلاد قبل الانتفاضة بأشهر. فلم يقصّر مسؤولون كثر من معارضي الحريري في توجيه الإتهام إليه بقيادة الأزمة النقدية بالتعاون مع حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف لحظة صعود رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الطائرة في رحلته الى اجتماعات الجمعية العمومية للامم المتحدة أواخر ايلول الماضي، وفاضوا من اتهاماتهم باتهامه بالتقصير لعدم مشاركته في الإجتماعات المالية التي استضافها القصر الجمهوري لمواجهة أزمات المحروقات والأدوية والمشتقات النفطية كنتيجة حتمية لوجود سعرين للدولار في السوق.
وفي الوقت الذي لم يظهر انّ الإنتفاضة قد ردّت للحريري أياً من الهدايا التي قدّمها لها كنتيجة حتمية لِما تعرضت له من اتهامات، ذهب البعض بعيداً في استدراجها الى أفخاخ مذهبية ومناطقية حالت دون ان تأتي بالنتائج المتوخّاة ونتيجة عدم قدرته، أي الحريري، على حسم الأمور بالسرعة القصوى وحمايتها من مسلسل الهجمات التي تعرضت لها من أكثر من طرف متعاون مع السلطة.
وبناء على ما تقدم، يقول العارفون انّ في هذه المحطة بالذات اختير التوقيت الدقيق لتوجيه الضربة الى الحريري وللقضاء نهائياً على مقترحاته الحكومية. وعلى رغم الجَو الذي أحاطه به رؤساء الحكومات السابقين والعائلات البيروتية قبل موقف دار الفتوى من اختيار المهندس سمير الخطيب، فقد ساد اعتقاد أن لا بديل من الحريري من دون ان يكتشف أحد من وسطاء تلك المرحلة ما يدَبّر له من خلال التفاهم مع دياب، الذي التزم بكل الشروط التي أوصَلته الى الموعد الثالث من مسلسل الاستشارات النيابية الملزمة، فجيء به محصّناً تجاه كل مفاعيل الإنتفاضة بالدرجة الأولى قبل ان يكون متجاهلاً لرَد فعل الشارع السني الى ما نشهده اليوم من مظاهر المنعة والقدرة على تجاوز تردداتها.
فقد بات واضحاً، وعلى خلفية «إحراجه لإخراجه»، انّ الإنقلاب نفّذ على الحريري قبل ان تنقلب السلطة على نفسها باختيار دياب الذي جاء مستعداً لكل أشكال المواجهات مع الإنتفاضة والشارع السني، متحصّناً بموقعه الأكاديمي من قلب الجامعة الأميركية. وعليه، بدأت المواجهة مع كل الأطراف في وقت واحد، فرُدّ اختياره على الإنتفاضة بتلبية أحد مطالبها برجل بعيد كل البُعد عن الطبقة السياسية رغم دوره في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2011. وجرى تقديمه على انه من الأكاديميين المستقلّين الذي لم تمسّه علاقاته المميزة بالمراجع الشيعية ورئيس «التيار الوطني الحر» قبل اختياره للمواجهة مع القاضي نواف سلام أو غيره.
وعليه، وبناء على كل ما تقدم، لا يمكن إخفاء حجم الحرب النفسية التي تخاض بكل الوسائل مع اللعب على قاب قوسين او أدنى من المواجهة المذهبية التي دقّت الأبواب بقوة. مع السعي الى تحميل الحريري ومعه «الشارع السني» مسؤولية ما يمكن ان تؤدي اليه مثل هذه المواجهة، ما لم يعبر دياب المراحل الدستورية المؤدية الى دخوله السراي الحكومي الكبير بتشيكلة حكومية ملغومة تحت شعار «انّ رئيس الحكومة هو من يشكّلها». بذلك أعطي دياب ما لم يعطَ لا للحريري ولا لغيره. وهو ما يوفّر له زخماً يؤمّن له الدخول الى نادي رؤساء الحكومة. وبهذه الصورة وحدها يظهر انّ الحريري هو من أخطأ في إدارة المعركة وليتحمّل كل النتائج المترتبة عليها، سواء بالنسبة الى موقعه الشخصي أو بالنسبة الى الصعيد الوطني.