من خلال المؤشرات التي توافرت حتى الآن، يبدو انّ ولادة الحكومة الجديدة قد لا تكون سهلة. لكن، وفي حال تجاوز الرئيس المكلف المؤشرات السلبية، ومُنح فرصة، هل سيعني ذلك انّ الأزمة القائمة ستبدأ بالانحسار تدريجاً، وسيشعر اللبنانيون بنوع من الانفراج الاقتصادي والمالي، ولَو النسبي؟
لا شك أنّ مجموعة من التحديات تنتظر أي حكومة جديدة، ترغب في أن تبدأ العمل على الخروج من الحفرة العميقة التي وصل اليها البلد، لعلّ أهمها ما يتعلق بالتحديات التالية:
أولاً - كيف سيتم فصل القرار الانقاذي الاقتصادي عن القرار السياسي. حكومة دياب، واذا سلّمنا جدلاً انها ستضم شخصيات من الاخصائيين المستقلين، كيف ستتخطى حقل ألغام الصراعات السياسية المرتبطة عضوياً بالقرارات الاقتصادية والمالية؟ على سبيل المثال، كيف ستُقنع هذه الحكومة الفريق السياسي الذي تدين له بوجودها بأهمية التعاون مع صندوق النقد الدولي، في الاتفاق على تفاصيل خطة الانقاذ؟ وبالمناسبة، يمتلك هذا الفريق الاكثرية النيابية الكفيلة بتعطيل أي قرار تتخذه الحكومة، ويحتاج الى التشريع في المجلس النيابي.
ثانياً - ما هي السبل الى إقرار خطة إنقاذية تتضمّن تفاصيل لا تتفق حولها الاحزاب السياسية المسيطرة عملياً على القرار، بصرف النظر عمّن يجلس في السراي؟ على سبيل المثال لا الحصر، أي خطة إنقاذ في الوضع الذي وصل اليه لبنان، قد تشمل قرارات موجعة وغير شعبية، منها ما يتعلّق بالضرائب والرسوم. وقد صدرت أخيراً، دراسات من مؤسسات دولية تشير الى أنّ نسبة الضرائب والرسوم الى الناتج المحلي (GDP) في لبنان لا تزال متدنية قياساً بالنسبة المُعتمدة في غالبية الدول. وبالتالي، قد يكون رفع هذه النسبة من ضمن بنود الخطة المتوقعة. فهل ستوافق القوى السياسية كافة على تغطية اجراءات من هذا النوع؟ وهل يمكن تجاوز واقع انّ شرارة اندلاع انتفاضة 17 تشرين الاول تمثّلت برفع الرسوم على خدمة الواتساب؟ وهل يكفي تمثيل «الثورة» في الحكومة حتى تستقيم الامور، ويتم تدجين الرأي العام، للتفاعل بهدوء وتفهُّم مع القرارات غير الشعبية؟
ثالثاً - في الموضوع الاساس المرتبط بإعادة تكوين «المخزون» المالي في البلد، لجهة اعادة رسملة القطاع المصرفي، أو لجهة معالجة العجز في المالية العامة، أو بالنسبة الى إعادة تنشيط القطاع الخاص بكل مرافقه، هذا الملف يحتاج توافقاً سياسياً يسمح بإقرار مجموعة قوانين في مجلس النواب. فكيف سيتم تأمين الاجماع السياسي لضمان إمرار هذه القوانين؟ على سبيل المثال، مشاريع الخصخصة لا تزال من الملفات التي يدور حولها خلاف سياسي حاد. كذلك توجد خلافات سياسية في العمق حول دور المصارف، ومن البديهي انه سيكون هناك «صراع» على الطريقة التي ينبغي اعتمادها لإعادة رسملة هذا القطاع، والاتفاق على دوره في المستقبل.
رابعاً - ما هي الطريقة التي ستُعتمد في مقاربة بعض الامور التي يُفترض انها بديهية وبسيطة، لكنها في العمق ليست كذلك؟. على سبيل المثال، كيف سيتم تجاوز مشكلة تعيين مجالس ادارة، أو هيئات ناظمة لمؤسسات حيوية مثل الكهرباء مثلاً؟ هل ستتخلّى القوى السياسية عن حصصها ايضاً في هذه التشكيلات، وتمنح دياب مع وزرائه حرية الاختيار من دون الاخذ في الاعتبار الهوية السياسية لكل عضو يتم ضمّه الى هذه المجالس والهيئات؟ وهل ستتخلّى القوى السياسية، لاسيما منها من كان يسيطر حتى الامس القريب على كل مفاصل التعيينات، عن هذا الامتياز الحيوي في المنظومة السياسية اللبنانية؟
خامساً - ما هي السبل التي سيعتمدها دياب لتطييب خاطر جمهور القوى السياسية التي تعتبر انها مغلوبة على أمرها، وأنّ رئيس الحكومة المُكلّف جاء بإرادة فريق، وغصباً عن إرادة فريق آخر. هذا الشعور ينبغي أن يتبدّد، لأنه من دون تحقيق هذا الأمر، لن يكتمل مشهد الثقة، ومن دون ثقة، لا إنقاذ ولا من يُنقذون.
في النتيجة، هناك حقائق سياسية وحقائق مالية واقتصادية على الحكومة، اذا تشكلت في المرحلة القصيرة المقبلة، أن تواجهها. ولعلّ السؤال الاول الذي سيكون عليها الاجابة عنه: هل نستمر في دفع مستحقات الدين قبل الاتفاق على خطة إنقاذ، أم نعطي الاولوية لضمان استيراد المواد الاساسية (محروقات، غذاء، دواء وسلع حيوية)؟ وهنا تنبغي الاجابة عن سؤال آخر: هل من المنطقي الاستمرار في دفع المال، سواء لسداد الدين، أو لاستيراد السلع الحيوية، اذا ما تبيّن ان كل دولار يخرج من مصرف لبنان، أو من المصارف يقلّص فرص استعادة ودائع الناس كاملة، أو يزيد في النسبة التي سيتم اقتطاعها من هذه الودائع عندما يحين الموعد؟
طبعاً، الاجابة هنا تحتاج قبل كل شيء الى إجراء مسح جدي لوضع الأمن الغذائي في البلد. وينبغي ان تعرف السلطة، بنتيجة هذا المسح، ما هي كميات المواد الاساسية المتوافرة، ولأي مدة زمنية تكفي، وهل توجد مخابئ سرية تضم مواد مخزّنة للاستغلال لاحقاً في «زمن المجاعة»؟ وما هي قدرات التجار على الاستيراد من خارج منظومة الصرف من الاموال المتبقية في لبنان، أي من خلال فتح اعتمادات من حسابات مصرفية خارجية؟ هذا المسح ينبغي ان يحظى بالأولوية اليوم، لأنه في ضوئه يمكن تنظيم عمليات الصرف، واتخاذ قرارات الدفع أو العكس. ولا يمكن الاتكال على آراء متضاربة يطلقها وزراء، على طريقة «حارة كل مين إيدو إلو».
على سبيل المثال أيضاً، لا يستطيع «وزير محظي» أن يجزم أمام وفد صناديق استثمارية عالمية جاء يستطلع الاجواء، انّ لبنان سيدفع مستحقاته من الديون في موعدها، بصرف النظر عن وضعه المالي، وحتى لو جاع اللبنانيون فإنهم يفضّلون السداد على التخلّف. هذا الموقف، دفع أعضاء الوفد الى الخروج غير مطمئنين على عكس ما أراده الوزير من كلامه، لأنّ المبالغة هنا بَدت غير حقيقية. وبالتالي، لم يستطع هؤلاء الوثوق بأنّ ما سمعوه سيُنفّذ فعلاً، لأنه لا يمكن التصديق انّ سداد الدين يمكن أن يحصل في ظل المجاعة؟
كذلك، لم يشعر الزوّار (ممثلو الصناديق العالمية) بالارتياح، بل أرعبهم ما سمعوه من وزير آخر يُلقي عليهم محاضرة في «الوطنية» التي تمنع على لبنان التعاطي مع صندوق النقد الدولي في المستقبل بغية التعاون ووضع خطة إنقاذية للخروج من الأزمة المالية، لأنّ لبنان حسب تعبيره يرفض هذا النوع من الوصايات عليه!
أسئلة وتحديات كثيرة وعميقة ومتشعبة تجعل التفاؤل حتى الآن ضرباً من ضروب المجازفة غير محسوبة المخاطر. وتبدو حكومة دياب، اذا رأت النور، في موازاة القوى السياسية «الممانعة»، شبيهة بالودائع المصرفية في وضعها الحالي: المال للمودع، والقرار للمصرف.