لم يكن مفاجئاً أن ينتهي الصراع على رئاسة الحكومة في لبنان إلى ما انتهى إليه، أي إلى تكليف الدكتور حسان دياب تشكيل هذه الحكومة رغم أنه لم يحصل إلا على أصوات سنّية معدودة من أعضاء مجلس النواب، في مقابل إجماع النواب الشيعة على تسميته، وتمتعه بدعم «حزب الله» والرئيس ميشال عون والوزير جبران باسيل.
لم يكن الأمر مفاجئاً لمن شاءوا أن يقرأوا بصورة واقعية الخريطة السياسية في لبنان، التي تم رسمها منذ انتخاب عون رئيساً للجمهورية. تلك الخريطة التي حددت موازين القوى التي رسا عليها البلد من دون قدرة كبيرة على تغييرها. ثم كانت الانتخابات النيابية التي تم تفصيل القانون الذي جرت على أساسه لتأتي بالنتائج التي أتت بها، وتكرس المكاسب التي حققها ما يسمى اليوم بفريق السلطة.
حاولت قوى سياسية بارزة، منها تيار المستقبل والقوات اللبنانية والنائب السابق وليد جنبلاط، بما يمثل وطنياً وداخل طائفته، أن تتعايش مع موازين القوى هذه على أمل تحسين بعض الشروط في عملية إدارة الدولة، لكنها كانت تصطدم بالتعقيدات والعوائق ذاتها. ويكفي التذكير بما واجه الرئيس سعد الحريري عند تشكيل حكومته المستقيلة، لإدراك قوة الفريق المسيطر على الوضع الداخلي، والذي بات الآن يستمد قوة أكبر بفضل ما يعتبرها «انتصارات» على الساحة الإقليمية.
وعندما انطلق الحراك الشعبي الواسع في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، شعر هذا الفريق الحاكم أن اهتزازاً كبيراً يجري تحت قدميه، أولاً بفعل المطلب الذي نادى برفض المحاصصة الطائفية، ثم بمطلب الحرب على الفساد تحت شعار «كلن يعني كلن». هنا بدأت حسابات هذا الفريق تتغير. أطراف منه حاولت موالاة الحراك، والزعم بأن الشعارات هي شعاراتها، وأن من الظلم تعميم تهمة التورط بالفساد. وكان الرئيس عون والوزير باسيل في طليعة أصحاب نظرية رفض التعميم هذه، على قاعدة أن «التيار الوطني الحر» غير متورط ولا مسؤول عن السياسات الاقتصادية التي أوصلت البلد إلى ما وصل إليه.
أما الطرف الآخر من الفريق الحاكم، أي فريق «حزب الله» وأدواته السياسية والإعلامية، فلجأ إلى تهمة تخوين الحراك واتهام القائمين عليه بالعمالة للخارج. وكانت هذه التهمة هي الأنجع في يد هذا الطرف لحشد الولاء المذهبي، ومنع تفتت قاعدته الشعبية، كما ظهر في المراحل الأولى في مناطق مختلفة ذات أكثرية شيعية.
مشكلة شباب الحراك كانت منذ انطلاقه أنهم يواجهون هذه القوى المتحكمة بالوضع السياسي والتي تخشى أن ينتهي أي تغيير شعبي بانقلاب على مصالحها وارتباطاتها الإقليمية. ومشكلة هؤلاء الشباب كذلك أنهم يواجهون نظاماً طائفياً متجذراً يصعب خلعه. وقد ظهرت هذه المشكلة بوضوح عندما بدأ البحث عمّن يخلف الرئيس سعد الحريري في رئاسة الحكومة، بعدما كان الحريري الوحيد بين الرؤساء الثلاثة الذي تجاوب مع دعوة الشارع إلى سقوط رموز السلطة التقليديين، فيما حافظ رئيسا الجمهورية ومجلس النواب ميشال عون ونبيه بري على موقعيهما.
لم يكن فريق رئيس الجمهورية و«حزب الله» ممانعاً عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة. لكنهم كانوا يصرون على عودته بشروطهم. لم تكن هناك حالة غرام بالحريري، لكنه كان الوحيد القادر على توفير غطاء سنّي لحماية عون داخلياً وتركه يسلك الطريق إلى نهاية عهده بأقل المتاعب، على أمل التمهيد من بعده للوزير باسيل. وبالنسبة إلى «حزب الله» كان الحريري مفيداً بسبب الدور الخارجي الذي يلعبه لتسويق «لبنانية حزب الله» والحد من تأثير العقوبات الدولية عليه والحصار الذي أخذ يتعرض له في دول عدة.
رفض الحريري الشروط وأصر على حكومة من غير السياسيين، اعتبرها «حزب الله» خطة مدبرة للإيقاع به. وهنا اصطدم البحث عن بديل للحريري بضرورة تطبيق القاعدة التي جاءت بالرئيس ميشال عون إلى قصر بعبدا، أي بتولي الأقوى في طائفته، الموقعَ المخصص لهذه الطائفة. ولما لم يكن هناك جدال في القوة التمثيلية السنّية لسعد الحريري، أخذت تبرز العقبات في وجه الشخصيات التي كان يجري استحضارها لترئيسها الحكومة الجديدة. فالمجيء برئيس للحكومة لا يتمتع بهذه الصفة التمثيلية سوف يعني خرقاً للقاعدة التي قامت على أساسها «التسوية الرئاسية» بين عون والحريري،، كما سيكون مخالفاً لما هو معروف بـ«الميثاقية»، أي احترام التمثيل الحقيقي للطوائف في المواقع الرئيسية في الدولة.
تكليف حسان دياب خرق إذن القاعدة التي قامت عليها «التسوية الرئاسية»، ما يعني دخول عهد الرئيس ميشال عون مرحلة جديدة من عدم الاستقرار الداخلي، وهو الذي كان يراهن على «شهر عسل» طويل مع الحريري، كما يدخل العهد مرحلة من العلاقات غير السوية مع أكثرية الطائفة السنية، ما يعيد إلى الذاكرة ما مرت به علاقات الرئيس الأسبق إميل لحود مع هذه الطائفة خلال ولايته.
أما بالنسبة إلى الحراك، فإن ابتعاد سعد الحريري عن رئاسة الحكومة ومجيء شخص آخر من دون اعتبار لقاعدة اختيار الأقوى في طائفته، يمكن أن يعتبر إسقاطاً لمبدأ توزيع المناصب الكبرى على أساس القوة الطائفية، لكن هذه العملية لا تعد انتصاراً للحراك إذا لم تشمل كل المواقع الرئيسية في الدولة. من دون ذلك تصبح عملية استنسابية يستغلها فريق على حساب فريق آخر. وهو ما تشير إليه القراءة السياسية لمعنى إيصال حسان دياب إلى رئاسة الحكومة، باعتباره موالياً لفريق «حزب الله» وعضواً سابقاً في الحكومة التي ترأسها الرئيس نجيب ميقاتي سنة 2011. وتم المجيء بها بعد الانقلاب الشهير على الرئيس سعد الحريري في عهد الرئيس ميشال سليمان.
لا الحراك كسب إذن ولا الوضع السياسي الداخلي تحصّن بنتيجة تكليف حسان دياب. والنتيجة أن لبنان يدخل مرحلة من فقدان المناعة السياسية، فيما يواجه أصعب أزمة اقتصادية منذ استقلاله. أزمة كانت تفترض تكاتف الجهد الداخلي لحلها، لكنها الآن مفتوحة على الاستثمار السياسي من جانب القوى التي تعتبر أنها حققت انتصاراً باستبعاد سعد الحريري عن رئاسة الحكومة وتركه نادماً على التسوية الرئاسية التي سهلت وصول العهد الحالي، وبتنصيب شخصية موالية للطرف الأقوى في المعادلة الداخلية.
فالخلاف القائم على ميثاقية هذا التنصيب، وحدّة الخطاب السياسي بين فريق رئيس الجمهورية وتيار «المستقبل» لا تنبئ سوى بأجواء ملبدة خلال المرحلة المقبلة، وبتجربة صعبة ستواجه حسان دياب لتشكيل حكومته. واللبنانيون هم الذين سيدفعون الثمن.