كان يكفي أن يقرأ المرء صباح الخميس الماضي، مع بدء الرئيس ميشال عون الاستشارات النيابية الملزمة، بعد تأخير استمر 50 يوماً على استقالة الرئيس سعد الحريري، عناوين الصحف ومقدمات الأخبار، لكي يصل إلى استنتاج يائس تقريباً، إذ كيف يمكن لأي حكومة جديدة بغضّ النظر عمن يرأسها وعن طريقة تشكيلها ولونها والأرجحيات التحاصصية فيها، أن تنتشل لبنان من القاع الذي وصل إليه، في وقت يغلب السؤال المؤلم؛ ماذا بقي من لبنان؟!
منذ شهرين اندلعت الانتفاضة الشعبية العارمة، التي تطالب بتغيير جذري في منظومة الدولة اللبنانية، يُبعد الطاقم السياسي الفاسد، الذي أوقع البلاد في الفقر والجوع والعوز والبطالة، ويأتي بحكومة جديدة من الاختصاصيين الأكفاء البعيدين عن عقلية المحاصصات الحزبية والطائفية، تتمكن من أن تبدأ خطوات إصلاحية فعلية، على قاعدة محاربة الفساد، والعمل لاستعادة ما يتجاوز 300 مليار دولار نهبها سياسيون ومسؤولون من المالية العامة على امتداد 30 عاماً وراكموها في المصارف الأجنبية، وأن تذهب البلاد إلى انتخابات جديدة وفق قانون جديد، يمهّد لقيام الجمهورية الثالثة.
لكن الأمور ذهبت في اتجاهات محبطة، إلى درجة أن الاستشارات النيابية يوم الخميس، سبقها يوم الأربعاء رفع جدار إسمنتي يفصل بين مجلس النواب ممثل الشعب، وبين الشعب المتظاهر طلباً للتغيير، وإلى درجة أن مسلسل الهجمات التي شنّها مناصرون لحركة أمل و«حزب الله» على مراكز وتجمعات وخيام المعتصمين في الحراك الشعبي، بدأت ترسم في الأفق والمخيّلات، أن لبنان قد ينساق إلى السيناريو العراقي الدموي، الذي يقوم على خلفية مظاهرات صريحة ضد الهيمنة الإيرانية، رغم أن المطالب في لبنان اجتماعية وتصيب كل شرائح المجتمع، بما في ذلك البيئة الاجتماعية الشيعية، التي انتفضت بدورها في معاقل «حزب الله» جنوباً وفي بعلبك، لكنها ووجهت بالهجمات الصارخة «شيعة شيعة» رغم إعلان القيادات السياسية في الحزب والحركة، أنها تتبنى مطالب الانتفاضة!
49 يوماً من المماحكات السياسية في مسألة الاستشارات النيابية الملزمة، التي بدا واضحاً أن الرئيس عون أرادها محطة ومفترقاً، رأى البعض أن الهدف هو تجاوز الدستور للعودة إلى ما قبل اتفاق الطائف، عندما كان الرئيس يعين الوزراء ويختار لهم رئيساً، لكن الذريعة كانت دائماً، أن عون يجري المشاورات قبل تحديد موعد الاستشارات، من منطلق الحرص على أن تكون عملية تشكيل الحكومة سالكة بعد الاستشارات، وخصوصاً أن الدستور لم يحدد له وقتاً لبدء تلك الاستشارات.
باختصار كان الصراع يدور حول شكل الحكومة الجديدة وهويتها ولونها السياسي، فقد استقال الحريري بعد اندلاع الثورة العارمة، وطالب بتشكيل حكومة جديدة تلبي مطالب الشعب الذي يصرّ على استبعاد السياسيين ويطالب بمحاربة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة، لكن الثنائي الشيعي، أي «حزب الله» وحركة أمل، والتيار الوطني الحر، وهو حزب عون، تمسكوا بداية بحكومة سياسية، في محاولة واضحة للالتفاف على الانتفاضة من جهة، ومن جهة ثانية لضمان استمرار أرجحيتهم على القرار داخل السلطة التنفيذية في البلاد.
50 يوماً من المناورات والمقارعات حول لون الحكومة، وخصوصاً بعدما حاول تحالف ثلاثي («حزب الله» و«أمل» والتيار الوطني الحر)، تمرير صيغة حكومة تكنوسياسية، تكون خليطاً من السياسيين، ولو من الصف الثاني مع اختصاصيين، لكن على حطام «التسوية السياسية» المعروفة، التي هندسها الحريري وجاءت بعون حليف «حزب الله»، رئيساً للجمهورية، برزت العقدة التي ستحول أمام أي مخرج معقول لتأليف الحكومة الجديدة، والتي تمثّلت في معادلة؛ إما أن يبقى الحريري والوزير جبران باسيل صهر عون معاً في الحكومة العتيدة، وإما أن يخرجا معاً!
وعلى هذه الخلفية، تطورت الأمور إلى محاولة تعرية الحريري من تأييد معظم الكتل النيابية المسيحية، وهو ما يتناقض مع الميثاقية الدستورية في لبنان، ولهذا قرر يوم الأربعاء الماضي أن يلقي مرة جديدة بكرة النار في أحضان معارضيه، معلناً عزوفه عن الترشح لتشكل الحكومة، بما يعيد الأمور إلى المربع الأول الذي يضع عون والثنائية الشيعية، أمام خيارات صعبة، سواء عبر الذهاب إلى حكومة سياسية من لون واحد، ستعجّل من الخناق الاقتصادي والحياتي على بلد مخنوق أصلاً، وخصوصاً بعد تلويح أميركي واضح، بأن لبنان لن يحصل على أي مساعدة غربية مع حكومة يسيطر عليها «حرب الله»، أم بالذهاب إلى حكومة تكنوسياسية، يعرف المنتفضون جيداً أنها ستكون حكومة سياسية مقنّعة، وسيعارضون الصيغتين، من باب التمسك بعدم العودة إلى ما قبل الانتفاضة، في وقت يزداد ضغط الأزمة الاقتصادية، إلى درجة أنه لم يعد في وسع المودعين الحصول على أكثر من 100 دولار في الأسبوع من ودائعهم في المصارف، وفي حين وصل عدد المنتحرين إلى 7 خلال أسبوعين، بسبب الفقر والعوز، ومع موجة مخيفة من الإفلاسات في المؤسسات وصرف العمال من دون رواتب، وتهديد المستشفيات بعدم استمرار القدرة على استقبال المرضى في وقت قريب.
فجر يوم الخميس موعد الاستشارات، تم الإعلان عن اتفاق بين الثنائية الشيعية «حزب الله» و«أمل» وبين تكتل لبنان القوي، أي نواب التيار الوطني، وحلفائهم، على ترشيح الأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت الوزير السابق حسان دياب، الذي سمّته الاستشارات مساء رئيساً مكلفاً، وفهم أن اسم دياب خرج من قائمة من الأسماء ضمت 48 اسماً، وكانت قد قدمت إلى الرئيس عون أثناء لقائه رئيسي الجامعة الأميركية فضلو خوري والجامعة اليسوعية الأب سليم دكّاش.
من المعروف أن دياب من الأسماء النظيفة المريحة والمعتدلة، وأنه يشبه الرئيس سليم الحصّ في مسيرته وسلوكه واستقامته، وهو أستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت يعلّم الهندسة الكهربائية وعلوم الحاسبات، وكان وزيراً للتربية في حكومة نجيب ميقاتي عام 2011، وله تقديره من الإدارة الأميركية ولا يمكن اعتباره مستتبعاً لها أو ملحقاً بسياسات معينة، ويمكن أن يعطي ارتياحاً لدى المجتمع الدولي واطمئناناً إلى جو الانتفاضة في الشارع، لأنه يطل بوجه غير مستهلك من خارج «الفيترينا» السياسية.
لكن إذا كان من المهم الآن السؤال؛ أي حكومة سيتم تشكيلها؟ وماذا سيكون لونها وطبيعة التمثيل السياسي والتحاصصي فيها؟ فإن الأهم بالطبع كيف يمكن الخروج من الأزمة الاقتصادية القاتلة تقريباً، وخصوصاً مع «جدار برلين البيروتي» المبكي المضحك، الذي انتصب أمام مجلس النواب ليعزله عن شعب يثور منذ شهرين، متجاوزاً كل فخاخ المندسين الذين يحاولون دفعه إلى الفتنة الطائفية والمذهبية وكل غزوات الحرق والتدمير التي شنها أنصار «حزب الله» وحركة أمل؟
أي حكومة ولو كانت من الملائكة، فإنها وسط هذه الأزمة اللبنانية الخانقة، ستواجه مجموعة هائلة من التحديات الجهنمية، فمع تسمية حسان دياب لتشكيل الحكومة يمكنك أن تقرأ في الصحف والأخبار تحذيراً من الانهيار الشامل والإفلاس خلال شهر، ودعوة اللبنانيين إلى الاستعداد لمزيد من التقنين الكهربائي، ما يفاقم الأزمة أكثر، وخوفاً متصاعداً من أزمات إفلاسية تصيب، حتى المصارف، وتحذيراً من قائد الجيش جوزيف عون من «ثورة الجياع»، وعندها لن تواجه القوى العسكرية الفقراء في الشوارع!