منذ أن بدأت التظاهرات الشبابية في العراق قبل شهرين ونصف الشهر كان واضحا أن الأحزاب الحاكمة لن تستسلم لمطالب الشارع، حتى وإن اعترفت علنا بأن جزءا من تلك المطالب محق.
عبر هذا الزمن من الاحتجاج كانت تلك الأحزاب قد مارست شتى صنوف عدم الاكتراث بالاحتجاجات، بل إنها لم تكترث للنتائج المأسوية التي انتهت إليها محاولات فضها بالقوة.
أما حين سقطت الحكومة مع استقالة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي الذي اُعتبر مسؤولا عن عدد من المجازر التي ارتكبت في حق المتظاهرين فإن بديله كان جاهزا، كما لو أن الأحزاب قد اختزلت الأزمة بوجود عبدالمهدي في الحكم. وهو ما رفضه المتظاهرون وما زالوا يرفضونه.
وهنا بالضبط بدأت فصول أزمة جديدة، حاولت من خلالها الأحزاب تمييع مطالب الحراك الشعبي وسرقة الوقت حين صارت تطرح، بين حين وآخر، اسما لمرشح جديد لمنصب رئيس الوزراء.
لم تتعامل الأحزاب بجدية مع مسألة هي في غاية الحساسية. فالمتظاهرون يرفضون من حيث المبدأ أن يقوم النظام بإعادة إنتاج حكومة تكون هي الأخرى واجهة له مثلما كانت الحكومات السابقة.
لقد أصرت الأحزاب (ولا تزال تفعل ذلك) على أن تكون شخصية رئيس الحكومة، وهو رئيس السلطة التنفيذية الذي يمتلك صلاحيات واسعة، من حصتها وهي في ذلك إنما تستخف بالشعب ومطالبه كما لو أن شيئا لم يقع.
هناك أكثر من 500 شهيد وأكثر من 20 ألف جريح، بعضهم مرشح للموت، هم حصيلة التضحيات التي قدمها الشعب العراقي من أجل أن ينهي نظاما فاسدا لم يعد في الإمكان الصبر عليه بعد 16 عاما.
ومع ذلك فإن أركان ذلك النظام ما زالوا مطمئنين إلى أن العملية السياسية التي أقامتها سلطة الاحتلال الأميركي عام 2003 وحظيت بدعم قوي من قبل النظام الإيراني هي الأساس الدستوري الذي ينبغي العودة إليه في محاولة تفهم وتقدير مطالب الشعب.
لذلك فإن تلك المطالب من وجهة نظر السياسيين العراقيين هي غير دستورية، لأنها لا تعترف بالعملية السياسية وتحط من شأنها بل وتسعى لإسقاطها. وهذا ما يعني أن المسافة بين الشعب والأحزاب تبدو مستحيلة وغير قابلة للتفاوض. فهل يمكن استمرار الأمر على ما هو عليه؟
الشعب في الشارع والسياسيون قابعون في المنطقة الدولية (الخضراء)، تفصل بين الطرفين جسور قرر الطرفان أن تكون مناطق عزل بينهما. وإذا ما كان الشباب قد قرروا الاستمرار في احتجاجاتهم إلى حين إنجاز مطالبهم، فإن السياسيين لا يملكون القدرة على تنفيذ قراراتهم في ظل الرفض الشعبي لها. ذلك يعني أن الأفق صار مسدودا.
قد تستمر التظاهرات السلمية إلى زمن مفتوح من غير أن يسقط النظام. تلك فرضية مخيبة للآمال. ولكن النظام في تلك الحالة سيكون من غير أدوات تحكم. فالأحزاب لن تتمكن من فرض حكومة على شعب، صار يرفض ما يُملى عليه.
ولأن اللجوء إلى مرجعية النجف الدينية صار عبثيا بسبب موقف المرجعية أولا، وبسبب عزوف المتظاهرين عن الإنصات إلى نصائح السيستاني ثانيا، فقد تلجأ أطراف من النظام إلى ممثلية الأمم المتحدة في العراق من أجل أن تكون وسيطا بينها وبين الشعب.
وهي حين تفعل ذلك إنما ترتكب خطأ سيؤدي بالضرورة إلى التسريع بسقوط النظام. ذلك الطلب هو اعتراف بالعزلة بما يعني سقوط الشرعية. ولأن مجلس الأمن صار على علم بعمليات القتل الجماعي والاختطاف والاغتيالات الفردية التي يمارسها النظام فإن تدخله حينها سيكون مبررا.
وبهذا لن يكون نهر دجلة الذي يفصل بين الشعب والنظام الآن قائما على الخرائط الدولية. سيسقط النظام لأن هناك استفتاء شعبيا قد أقر ذلك.