قبل دقائق قليلة من أول مواعيد الاستشارات النيابية الملزمة قبل ظهر أمس، أرجأ رئيس الجمهورية المواعيد بطلب مباشر من الحريري الذي تمنّى على رئيس مجلس النواب نبيه بري التدخل لدى رئيس الجمهورية لتأجيلها بناء على معطيات وجيهة ربطها الحريري بهزالة التسمية المسيحية التي سينالها بعد موقف «القوات اللبنانية» الذي خذله بإعلانه عدم تسميته، رغم أنه يريد له أن يشكّل الحكومة، وإذا ضَمّت اختصاصيين سيمنحه الثقة.
قبل أن يَقبل عون التماس الحريري، أبلغ الى بري أنه يريد ان يسمع هذا الطلب مباشرة من الحريري الذي أجرى اتصالاً بعون وأبلغه طلبه، مقترحاً تأجيل الإستحقاق الى الاثنين المقبل، لكنّ رئيس الجمهورية اقترح يوم الخميس منعاً لتزامنها مع عيد الميلاد، وكان للحريري ما أراد وفق التوقيت الذي اختاره عون.
وفي أعقاب ما أحدثه قرار التأجيل من صدمة في كل الأوساط السياسية والنيابية تحديداً، توسّعت رقعة التكهنات حول ما حصل بحثاً عن الأسباب القاهرة التي أدت الى هذا القرار المفاجىء، قبل ان يتبيّن ان التأجيل وَفّر أحداثاً ومشكلات كانت ستقع مساء أمس فور انتهاء الإستشارات النيابية، بعدما توافرت معطيات في دوائر سياسية وحزبية محدودة للغاية.
فمعظم من فوجئوا بقرار التأجيل لم يكونوا على علم بالكثير من الوقائع التي شهدتها الساعات التي سبقت القرار، وما حملته من مفاجآت على الأقل في «بيت الوسط»، والتي دفعت الحريري الى طلب التأجيل. ومنها اثنتان لا بد من التوقف عندهما:
- الأولى قرار «القوات اللبنانية» بحجب التسمية عنه في الاستشارات، لكنها في الوقت عينه ستمنحه الثقة عند تشكيل الحكومة من اختصاصيين. وهو ما أحدث صدمة كبيرة في أوساط «بيت الوسط».
فالقوات كانت قد وعدت الحريري بتسميته بقرار من كتلة «الجمهورية القوية»، وهو ما نقله موفد الحريري الى معراب الوزير السابق غطاس خوري السبت الماضي الى رئيس حكومة تصريف الأعمال من أجل تعويض المخاوف من فقدانه ما يمكن تسميته «الميثاقية المسيحية»، في ظل قرار كتلة «لبنان القوي» بحجب التسمية عنه وعدم المشاركة في الحكومة التي ينوي تأليفها. لكن ما حصل عكس صورة مختلفة تماماً.
- أمّا الثانية وهي الأخطر والأكثر حراجة، فقد تسرّب الى الحريري من جهة غير معلومة، في وقت سابق من صباح أمس، أنّ هناك فخاً يُنصب له في نهاية الإستشارات بمعزل عن موقف «القوات اللبنانية» الذي لم يكن مدبّراً لا مع عون ولا مع باسيل. فللقوات قنواتها الداخلية والخارجية التي تتحكّم بمواقفها خارج أي اصطفاف داخلي، وخصوصاً انّ حلفها مع عون والتيار البرتقالي بات من التاريخ.
تقول الرواية التي تبلّغها «بيت الوسط» أنّ «مكيدة» تدبّر لسيده في نهاية الإستشارات، تعيد التاريخ نفسه الى واحدة مماثلة تعرّض لها والده في خريف الـ 1998 عند احتساب النتائج التي آلت اليها الإستشارات النيابة يومها. فنواب «التيار الوطني» سيودعون اسم الرئيس المكلف لدى رئيس الجمهورية ليتصرف بها كمفوض بالكشف عنها.
وفي رواية مَن عايَش تلك الفترة جَرت الوقائع على الشكل الآتي: في بداية عهد الرئيس اميل لحود، وفي حضور الرئيس نبيه بري الدائم في مثل هذه الإستحقاقات التي واكبت الاستشارات النيابية الملزمة منذ عام 1992، حضر الرئيس رفيق الحريري الى القصر الجمهوري فأبلغه لحود انّ الإستشارات النيابة انتهت الى نيله 83 صوتاً.
ولمّا احتسب لحود الباقي من أصوات النواب أبلغه انّ 31 نائباً تركوا الحرية لرئيس الجمهورية بتسمية من يراه مناسباً لتشكيل الحكومة. رفض الرئيس الشهيد النتيجة، وأصرّ على احتسابهما معاً لتتعادل أصواته في التكليف مع الأصوات التي انتخبت لحود رئيساً للجمهورية، وهي كانت 116 صوتاً.
ولمّا رفض لحود ذلك، اقترح الحريري إعادة الإستشارات من جديد مع تشديده على رفض ما يسمّى ترك التسمية لدى رئيس الجمهورية. فالتسمية إلزامية، ومن لا يسمّي الحريري يسمّي مرشحاً آخر. وزاد الحريري متهماً لحود بخرق الدستور، وهو ما دفع لحود الى رفض التهمة على الفور، فدار حوار مباشر وقصير بين الرجلين:
- قال لحود: أنا لا أُتّهم بخرق الدستور. وسأله: هل أنت مُصرّ على هذه التهمة ام انك تسحبها؟
- ردّ الحريري مؤكداً ومصّراً على هذه التهمة.
- ردّ لحود: طالما أنك مصر على هذه التهمة، فأنا سأعيد الإستشارات وسآتي بغيرك لتشكيل الحكومة.
- ردّ الحريري: وبمن ستأتي لهذه المهمة؟
- ردّ لحود: الرئيس سليم الحص جاهز وستأتي به الإستشارات المقبلة.
- قال الحريري: سيعذبّك الرئيس الحص كثيراً.
- ختم لحود الحوار بالقول: مش قد ما راح تعذبني إنت.
وعلى وقع هذه الرواية التي استذكرها كثر أمس، كشف بيان رسمي للحريري ما حصل آنذاك، مستعيداً به موقف والده في تجربته مع الرئيس لحود، مؤكداً فيه رفضه المطلق تغطية أي خرق دستوري مرة أخرى.
عند هذه المعطيات ثمة من يعتقد انّ الأمور لن تبقى على حالها الى موعد الخميس المقبل، وانّ الرئيس الحريري يدرس رداً محكماً على ما جرى بالأمس. وفي المعلومات انّ الحريري يتّجه الى حسم موقفه في الساعات الـ 72 المقبلة قبولاً بالمشاركة في استشارات الخميس المقبل، أو ربما لن يصل اليها ليعلن عزوفه عن الترشّح لهذه المهمة، رداً على ما يُدبّر له من مكائد تحرجه لتخرجه من السلطة في طريق البحث عن شخصية أخرى.
والى أن تثبت هذه الرواية، تتعدد السيناريوهات المحتملة وهي تناجي خيارات الحريري قبولاً بالاستشارات المقبلة او انسحاباً من الساحة الحكومية. وعلى كلتا الخطوتين تترتّب نتائج كبيرة من الصعب تقدير نتائجها من اليوم، خصوصاً انّ البلاد تعيش تحت ضغوط اقتصادية ونقدية خطيرة من الداخل، وتوازيها ضغوط دولية تحذّر من مستقبل الوضع في لبنان اذا بقي الأداء السياسي على ما هو عليه من فخاخ ومكائد. فالعالم لن يتفرّج كثيراً على ما يجري، وقد تتخذ المواقف الدولية التحذيرية أشكالاً أخرى مع وصول مساعد وزير الخارجية الأميركية دايفيد هيل الى بيروت في الأيام المقبلة على وقع تحذيرات فرنسية وأخرى أممية من الآتي، وتدعو الى تشكيل حكومة بأسرع وقت ممكن. فأيّ من هذه السيناريوهات سيتحول واقعاً في القريب العاجل؟