إنّ مجرّد إعلان «القوات» أنها لن تؤيد الحريري الذي بات عندها في مرتبة «الحليف مع وقف التنفيذ»، بعدما كان حليفها الاستراتيجي حتى ساعة قرارها بعدم تسميته، فذلك يدلّ فعلياً الى انّ بعض العواصم العربية والغربية الفاعلة التي تواليها «القوات»، لا تجد الآن انّ الحريري رجل هذه المرحلة، وذلك في ضوء ما أعّدته من خطط آنية ومرحلية بالنسبة الى مستقبل الاوضاع في لبنان والمنطقة.
ويبدو انّ هذه العواصم، ولاسيما منها واشنطن، بحسب المتابعين من معنيين وغيرهم، أجرت تقييماً لأداء الحريري في المرحلة السابقة التي انتهت باستقالته قبل ما يزيد عن 50 يوماً، وخرجت بنتيجة أبلغتها الى من يعنيهم الامر من حلفاء ومهتمين، انّ الحريري «لا يستطيع في هذه المرحلة ان يقود برنامج تغيير حقيقي، وأنه ليس بقادر في الوقت نفسه على نقل الدولة الآن الى حال أفضل.
وبالتالي، فإنها، أي هذه العواصم، باتت لا تعير اهتماماً سواء بقيَ الرجل في رئاسة الحكومة او خرج منها، وتعتبر انّ «أداءه منذ العام 2016 على كل الصعد السيادية والاصلاحية وغيرها لم يكن بالمستوى المطلوب».
وفي هذا السياق يقول قريبون من مراجع حزبية انّ تقييم بعض العواصم العربية والغربية لأداء الحريري منذ 2016 وحتى استقالته كان تقييما سلبياً، ولكنها لم تطرح حتى الآن بديلاً منه، بيد انه طوال فترة عزوفه عن قبول التكليف سمّى عدداً من الشخصيات لخلافته، ليتبيّن تباعاً ان هذه التسميات لم تكن جدية وإنما أُريد منها إمرار الوقت لعلّ العواصم العربية والغربية تغيّر في تلك الفترة نظرتها السلبية إليه إيجاباً.
ولكن كانت النتيجة انه عندما عاد عن عزوفه اكتشفَ أنّ تلك العواصم لم تغيّر في نظرتها تلك، على رغم إعلان دار الفتوى ترشيحه لرئاسة الحكومة على لسان المهندس سمير الخطيب أحد مرشحيه لخلافته.
وقد أُريد من هذا الترشيح، ومن دار الفتوى بالذات، مخاطبة تلك العواصم بالعربية والغربية بما معناه أنّ الرجل ما زال يتمتع بـ»إجماع سنّي» على زعامته السياسية داخل طائفته وخارجها.
على أنّ تأجيل الاستشارات النيابية الملزمة للمرة الثانية أمس كان مردّه، قبل كل الاسباب التي ساقها «بيت الوسط»، انّ البوانتاجات الاولية التي أجريت للنتيجة المنتظرة للاستشارات أظهرت أنه لن ينال لا أكثرية موصوفة ولا أكثرية مطلقة لتكليفه تأليف الحكومة العتيدة.
وبعيداً من الاسباب التي سيقت لتأجيل الاستشارات التي كانت مقررة امس الى بعد غد الخميس، فإنّ التأجيل كان منتظراً، ولن يكون مستغرباً اذا تأجلت مجدداً هذه الاستشارات الى الاثنين المقبل، لأنّ ايّ شيء في أسباب التأجيل الحقيقية لا يبدو انه سيتغيّر او يتبدّل، فالحراك الشعبي جعل الواقع السياسي في البلاد غير ما كان قبله، والبلاد باتت واقفة على شفير انهيار اقتصادي ومالي، والبعض يقول انّ هذا الانهيار قد بدأ، ما باتَ يفرض على السلطة إجراء معالجات بأدوات وأساليب جديدة تفرض تغييراً في كثير من الوجوه، وإبعاد كل من فشلوا في الاداء او لم يتمكنوا من الانجاز.
منذ ما قبل عزوفه عن الترشّح وبعد عودته عنه، يطرح الحريري بإصرار تأليف «حكومة اختصاصيين»، محاولاً أن يحاكي بها العواصم العربية والدولية التي تنادي من فوق الطاولة ومن تحتها بتأليف مثل هذه الحكومة سبيلاً لحل الازمة في لبنان، لكنّ هذه الدول ما تزال على نظرتها السلبية من الرجل، إلّا أنه يتبيّن يومياً انّ المعنيين حوّلوا مصطلح «حكومة الاختصاصيين» الى «رأس جسر» للوصول الى اهدافهم السياسية الكامنة خلف هذا المشروع، لأنهم يدركون مسبقاً انّ مثل هذه الحكومة الخالية من السياسيين لا يمكن تأليفها في لبنان الغارق في السياسة داخلياً وإقليمياً ودولياً حتى الصميم.
المعارضون لـ«حكومة الاختصاصيين» هذه يقولون انّ واشنطن وكل العواصم المُنادية بهذه الحكومة تريد من خلالها إبعاد خصومها من القوى السياسية اللبنانية وعلى رأسها «حزب الله» عن السلطة، تمهيداً لتقويض نفوذها ان لم يكن إنهاؤه، وإرساء سلطة جديدة تنسجم مع مصالحها في لبنان والمنطقة.
لكنّ إصرار الحريري على هذه الحكومة لم يغيّر ما في نفس هذه العواصم التي غيّرت موقفها منه، او حجبت الاهتمام عنه، ما جعله في موقع المتهم لدى القوى السياسية المستهدفة بتلك الحكومة، بأنه يشارك تلك العواصم مشروعها. ولكنّ المفارقة انّ هذه القوى تؤيّد تكليف الحريري، وإن كان بعض كتلها النيابية لن يسمّيه في الاستشارات الملزمة لهذه المهمة، فيما جاء رفض تسميته من بعض حلفائه وعلى رأسهم «القوات اللبنانية» التي قررت علناً عدم تسميته، بينما ذهب حزب الكتائب الى الاعلان أنه سيسمّي نواف سلام، في الوقت الذي قرر تكتل «لبنان القوي» وهو أكبر تكتل نيابي عدم تسمية الحريري على رغم كل المصالح السياسية وغير السياسية التي تربط بينهما.
الى أين من هنا؟ تتساءل الاوساط المعنية، وتجيب متوقعة تأجيل الاستشارات المقررة بعد غد الخميس الى موعد لاحق، وربما يتكرر التأجيل على غرار ما كان يفعل رئيس مجلس النواب نبيه بري عندما كان يدعو المجلس الى جلسات متتالية لانتخاب رئيس جمهورية جديد الى حين انتخاب الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الاول عام 2016، وذلك في حال عدم الذهاب نحو تسمية شخصية سياسية تكنوقراطية جديدة لتأليف الحكومة العتيدة.
لكنّ هذه الاوساط تستبعد أن يطول عمر حكومة تصريف الاعمال، لأنّ البلاد المأزومة بشدة اقتصادياً ومالياً لا تتحمّل المزيد من التأخير في تأليف حكومة فعّالة تتصدى للأزمة وتمنع الانهيار، خصوصاً انّ المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة ما تزال تبدي الاستعداد للمساعدة في هذا الاتجاه.
وتتوقع هذه الاوساط أن يتم في اللحظة المناسبة الاتفاق على تأليف حكومة تكنو-سياسية برئاسة تكنو-سياسي، لأنّ مشروع «حكومة الاختصاصيين» ساقط سياسياً منذ إعلانه، فمثل هذه الحكومة ما كان لها من مكان يوماً منذ التوصّل الى «اتفاق الطائف»، ولن يكون لها مكان الآن، في زمن السلطة التنفيذية الجامعة المجسّدة بمجلس الوزراء.