بَدت العاصمة اللبنانية في الاسبوعين الماضيين وكأنها «مربط خيل» صناديق تحوّط وبنوك وصناديق استثمار، من ضمنها مورغان ستانلي (Morgan Stanley) الأميركي، وسواه من مؤسسات مرموقة ومعروفة في الاسواق المالية العالمية. وفود تمثّل هؤلاء قَدمت الى لبنان، وأجرت لقاءات مع رسميين ورجال مال ومصارف، بعضها في العلن، وبعضها بقي بعيداً من الاضواء.
هذه الزيارات أثارت الحشرية لدى البعض، والقلق لدى البعض الآخر، والامل لدى آخرين، خصوصاً انّ الخبر الرسمي عن هذه الاجتماعات تحدّث عن اهتمام تُبديه هذه الجهات الدولية للاستثمار في الادوات المالية اللبنانية. فهل فعلاً هناك من يريد أن يستثمر في هذه الظروف بالسندات اللبنانية؟
في هذا السياق، لا بد من الاشارة الى أنّ الدول التي تواجه أزمات مالية معقدة، تصبح موضع اهتمام الصناديق والبنوك الاستثمارية للأسباب التالية:
أولاً - يرغب أصحاب المحافظ الاستثمارية الذين يحملون سندات دين صادرة عن دولة ما، استشراف مستقبل البلد الذي يحملون سنداته لاتخاذ القرار في شأن بيع او شراء المزيد.
ومن المعروف انّ الارباح والخسائر المحتملة في السندات الحكومية في فترات، كالتي يمر بها لبنان، تكون مرتفعة وسريعة. لذلك، تشكّل الدول التي تقف على ابواب التعثّر، والتي تعاني صعوبات مالية كبيرة، نقطة جذب واهتمام. لا أحد يريد خسارة كميات كبيرة من المال بسرعة، ولا أحد يريد أن يفوّت على نفسه فرصة تحقيق أرباح كبيرة في وقت قياسي.
ثانياً - من الضروري معرفة المسار الذي تتخذه أي دولة «تحتضر» مالياً في الاسواق الناشئة، لكي يتم تقييم أثر التثقيل، لأنّ مؤشر أي دولة يؤثّر على المؤشر العام لهذه الاسواق.
ثالثاً - يفضّل بعض المستثمرين في الاسواق الناشئة الدول التي لديها تصنيف ائتماني هابط، مثل اوكرانيا، الارجنتين، مصر، تركيا، لبنان، والتي يصبح فيها مؤشر التقلّب (volatility index) متحركاً صعوداً ونزولاً بسرعة وبقوة. على سبيل المثال، وبعد حرب تموز في العام 2006، تحرّك المستثمر العالمي جورج سوروس في اتجاه بيروت، وبعث كشّافته الى لبنان، لاستطلاع الأرض، ومعرفة إمكانات الاستثمار في السندات الحكومية.
في المقابل، ماذا يريد أن يعرف الموفدون من قبل البنوك والصناديق الدولية، وكيف يستطيعون تكوين رأي صائب حول المسار الذي ستسلكه الأزمة المالية في دولة شبه متعثرة؟
أولاً - يسعى هؤلاء الى تكوين فكرة عن القيادة السياسية، وعن الاوضاع السياسية في البلد. لذلك يحرصون على مقابلة الرؤساء والوزراء، وأحياناً زعماء الأحزاب المعارضة. ويحاولون من خلال هذه اللقاءات، تكوين فكرة عن الوضع السياسي. من يقود البلد؟ كيف يُدار؟ ما هي آلية اتخاذ القرار؟ هل من اتفاق على توصيف الأزمة؟ ما هي قدرة السلطة السياسية على فرض قرارات على السلطة النقدية أو المالية؟...
ثانياً - يلتقي الموفدون ايضاً، أصحاب القرار والتأثير على مستوى السياسة المالية والنقدية. ويحاولون معرفة حقيقة الارقام، خصوصاً انّ الكثير من الدول الناشئة تعاني فوضى الارقام، سواء عن قصد بهدف التعمية على الأزمة، أو عن غير قصد بسبب عدم توفر آلية علمية وطرف قادر على ضمان إصدار الأرقام الحقيقية التي تعكس الواقع المالي والاقتصادي للدولة.
ثالثاً - يعقد الموفدون ايضاً لقاءات مع شخصيات مدنية لا علاقة لها بالسلطة بشكل مباشر، ويطّلعون على آراء هؤلاء ومواقفهم حيال الأوضاع السياسية والاقتصادية، بهدف تكوين فكرة عن اتجاهات وطرق تفكير الرأي العام.
في الحالة اللبنانية، لا توجد إحصاءات دقيقة عن حجم السندات التي يحملها مستثمرون أجانب (صناديق وبنوك استثمارية)، ولكن التقديرات تشير الى حوالى 5 مليارات دولار. وقد شهدت الاسواق حركة بيع كثيفة للسندات في الفترة التي بدأت تظهر فيها معالم الوهن على الوضع المالي اللبناني، منذ مطلع العام 2019.
وجاءت بعض عمليات البيع استباقاً لخفض التصنيف الائتماني للبلد، والذي كانت في أجوائه صناديق التحوّط التي يحمل المستثمرون فيها أوراقاً لبنانية. وقد وصلت اسعار اليوروبوند اليوم الى مستويات متدنية جداً، تتراوح بين 40 و50 في المئة من سعرها الاسمي. وهو انخفاض دراماتيكي، ومؤشر واضح الى خطورة الأزمة. لكن هذا الانخفاض يشكل للمستثمرين محطة ينبغي التوقّف عندها، والتفكير اذا ما كان ينبغي بيع المزيد من السندات، أم إعادة شراء ما باعوه يوم كان السند منخفضاً بنسبة 10 أو 20 في المئة فقط؟
بعد الزيارات الاستطلاعية التي قام بها ممثلو البنوك والصناديق العالمية، يُفترض أن يكون المستثمرون، ومن يدير محافظهم الاستثمارية، قد كوّنوا فكرة عن المسار الذي سيتخذه الوضع اللبناني، ليقرروا في ضوئه اذا ما كانوا سيبيعون أم سيشترون. وهناك معلومات وانطباع عام بأنّ هؤلاء سينصحون زبائنهم بالبيع وليس بالشراء.