ستحترق آخر زهرة في هذا البلد التاعس، قبل أن يهتدي شياطين السياسة إلى حكومة الملائكة، التي لن تكون على ما يبدو أكثر من لجنة تفليسة لإحصاء معالم الفقر والبؤس في البيوت المتداعية، وعلى أبواب المستشفيات العاجزة عن استقبال المرضى، وأمام المصارف التي أجبرتها سياسات الحماقة والنهب على أن تعامل زبائنها المودعين كمتسولين.
كان لبنان البلد الجميل، لكن لا يدري أحد الآن إن كان سيعود ومتى، ذلك أن مجرد التأمل في التطورات السياسية والأرقام الاقتصادية ومؤشرات القطاعات الخدماتية، عملية تدعو إلى الألم والقنوط، وخصوصاً عندما تكون المجموعة الدولية، أكثر اهتماماً بمعالجة الأزمة الخانقة من السياسيين والمسؤولين اللبنانيين أنفسهم.
كان هذا الأسبوع طافحاً بالألم واليأس، لكن من دون أن تتنبه الدولة المتداعية والغارقة في الصراع على شكل الحكومة الجديدة، التي يجب تشكيلها بعد مرور 47 يوماً على استقالة الرئيس سعد الحريري، إلى سرعة الانهيار الذي تندفع إليه البلاد، فبعد مرور شهرين على بدء الانتفاضة الشعبية العارمة ضد الفساد والهدر والفقر والبطالة التي وصلت نسبتها إلى أكثر من 50 في المائة باتت الصورة قاتمة أكثر ويائسة أكثر. نهاية الشهر راقبنا السادة الوزراء والنواب الحاليين والسابقين، يخرجون في حبور واضح بعدما قبضوا رواتبهم، بينما لم يكن مثلاً المواطن ناجي الفليطي قد ووري الثرى، بعدما انتحر شنقاً لأنه عجز عن تلبية طلب ابنته الصغيرة إعطاءها 1000 ليرة ثمن منقوشة زعتر، بدا التناقض مريعاً ومثيراً لمزيد من الغضب، وخصوصاً بعدما وصل عدد المنتحرين بسبب الفقر والعوز إلى 6 مواطنين في أسبوع.
يوم الأربعاء الماضي تدافعت معالم الأزمة، واحتدمت أحاسيس اليأس على خلفيتين؛ الأولى تمثّلت بازدياد المؤشرات، التي أوحت بأن هناك نية شريرة تستهدف ضرب الانتفاضة وإجهاضها، عبر مندسين وطوابير خامسة تفتعل الصدامات والمشكلات، بعد الهجمات التي شنها مناصرون لـ«حزب الله» على مواقع الاعتصام، والتي جاء الرد عليها سريعاً، ليس بترداد المنتفضين شعار «سلمية سلمية»، بل أيضاً عبر حركات الاحتضان والتضامن الشعبي بين المناطق والأحياء، رفضاً لكل محاولات الاستثمار في المشاعر الطائفية والمذهبية، بهدف إجهاض الثورة.
أما الثانية فكانت تتصل باليأس المحبط الذي رسمته آفاق الوضع بعد النتائج الصادمة التي جاءت من المؤتمر الذي عقدته مجموعة الدعم الدولية في باريس بدعوة من فرنسا، وحضره ممثلون عن 17 دولة ومنظمة دولية.
البيان الختامي كرر تقريباً ما كان أبلغه إلى المسؤولين اللبنانيين الغارقين في البحث عن طريقة لتشكيل حكومة تكنوسياسية، تعيد ولو بطريقة التفافية الذين نهبوا البلد إلى السلطة، وتضمن من جهة ثانية أن يبقى لـ«حزب الله» دوره المقرر في الحكومة، في حين يتمسك الحريري بتشكيل حكومة من الاختصاصيين الأكفاء البعيدين عن الأحزاب السياسية، وهو ما تتمسك به الانتفاضة الشعبية.
جاء في بيان مجموعة الدعم الدولية، أن لبنان يواجه أزمة تضعه على شفا انهيار فوضوي للاقتصاد وزعزعة أكبر للاستقرار، ومن أجل هذا التردي المالي والاقتصادي، واستعادة الثقة بالاقتصاد وتناول التحديات الاجتماعية على نحو مستدام، هناك حاجة ملحة لإقرار حزمة سياسات كبيرة موثوق بها وشاملة لتنفيذ إصلاحات اقتصادية، تعيد للبنان استقراره المالي وتستطيع تقديم إجابات عن التطلعات التي أعرب عنها الشعب اللبناني منذ اندلاع حراكه في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. ولكن كيف؟
تماماً كما سبق أن أعلنت أنييس فون دير مول، باسم الخارجية الفرنسية عشية المؤتمر، أنه ينبغي في أسرع وقت تشكيل حكومة فاعلة وذات مصداقية تتخذ القرارات الضرورية لاستعادة الوضع الاقتصادي وتلبية الطموحات التي عبّر عنها الشعب اللبناني، والالتزام الكامل باتخاذ الإجراءات والإصلاحات المطلوبة في وقت سريع وعلى نحو حاسم، والقيام بمحاربة مشكلة الفساد وتنفيذ خطة لإصلاح قطاع الكهرباء تتضمن آلية لتحسين الحوكمة. وعلى مدى 6 أشهر بعد تشكيل الحكومة التي تتجاوب مع تطلعات الشعب يتعين اتخاذ إجراءات هيكلية لضمان إقرار نموذج اقتصادي مستدام، وهو ما يضمن بالتالي تنفيذ مقررات «مؤتمر سيدر» التي يستمر التزام الدول المانحة بها، شرط قيام السلطات اللبنانية بالإصلاحات الضرورية ليتمكن المجتمع الدولي من القيام بمد يد المساعدة!
وإذا كان الحريري قد راسل دولاً عدة أوروبية وعربية لمساعدة لبنان لتأمين المواد الأساسية الغذائية والأولوية لمعالجة النقص في السيولة، فإن مؤتمر باريس أعلن الاستعداد لتلبية مثل هذه الطلبات، وهو ما يثير المرارة في نفوس اللبنانيين الذين يحسون كأنهم رعايا بلد متسوّل. حملت الأيام الماضية مزيداً من المعالم المؤلمة والمقيتة، ليس بسبب الخلاف الأبدي على تشكيل الحكومة التي تتمسك الثنائية الشيعية بأن تكون تكنوسياسية للأسباب المذكورة أعلاه، أو أن تبقى الحكومة المستقيلة حكومة تصريف أعمال لمدة طويلة، في حين ينهار الوضع المالي والاقتصادي، وتستمر الانتفاضة رغم المحاولات الحزبية المتزايدة لفرطها وإجهاضها، بل لأسباب وتطورات متسارعة تؤكد أن السقف ينهار على رأس لبنان.
يوم الأربعاء لم يكن مفاجئاً أن يعلن وزير المالية علي حسن الخليل أن عجز ميزانية 2019 سيكون أكبر بكثير مما كان متوقعاً، بسبب الانخفاض المقلق للغاية في الإيرادات التي باتت تعاني أزمة مالية شديدة، بعدما كان من المتوقع تأمين 5 آلاف مليار ليرة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، لكن المبلغ تراجع بنسبة 40 في المائة، وهو ما اعتبرته الانتفاضة محاولة لتحميلها المسؤولية، في حين أن الانخفاض المقلق ليس في الإيرادات، بل في وعي المسؤولين السياسيين المنقسمين حول تشكيل الحكومة، في وقت يستمر التمسك بالعودة إلى توزير عدد من الذين كانوا سبب الكارثة التي وصلت إليها البلاد!
وكان وزير العمل كميل أبو سليمان قد أعلن للتو أن 75 مؤسسة وشركة طلبت الصرف الجماعي لموظفيها وعمالها في الأيام العشرة الأخيرة، ما يعني مزيداً من الانهيار الذي سيرفع نسبة البطالة إلى أكثر من 50 في المائة، ثم جاء ما هو أدهى وأخطر عندما تداعت مجموعة من 1000 شركة ومؤسسة في القطاع الخاص إلى لقاء في وسط بيروت الخميس الماضي لإعلان موقف متقدم هو أقرب إلى العصيان.
ينهار السقف على رأس لبنان، ويستمر الحديث عن مشاورات يجريها الرئيس ميشال عون منذ 36 يوماً بذريعة تسهيل تشكيل الحكومة، وقبل إجراء الاستشارات الملزمة لتكليف رئيس جديد لتشكيل الحكومة، يصل الحديث... ليس إلى أن التكليف والتشكيل سيأتيان متلازمين، بما يعني تجاوز الدستور، بل إلى وضع أسماء مرشحين لتشكيل الحكومة قبل الاستشارات، لكن عون طمأن المواطنين قائلاً إنه سيواصل النضال لتترسخ حقوق اللبنانيين بالعيش الكريم والحرية والعلم والأمان!
قل إن شاء الله، وانظر إلى أعلى، إلى السقف الذي ينهار!