تتجه إسرائيل نحو تنظيم انتخابات تشريعية للكنيست الـ23. هذه الانتخابات هي الثالثة من نوعها في عام واحد (بعد انتخابات أبريل وسبتمبر). تجرى هذه الانتخابات بسبب تعذر قدرة زعيمي الحزبين الكبيرين، أي بنيامين نتنياهو زعيم حزب ليكود، والجنرال السابق بيني غانتس زعيم حزب أزرق ـ أبيض، على تشكيل ائتلاف حكومي في إسرائيل، للمرة الثانية على التوالي.
ويمكن تفسير تعثر ذلك بعدة أسباب، أولها، التوازن بين الحزبين المذكورين في عدد مقاعد الكنيست. وثانيها، رفض حزب إسرائيل بيتننا (لليهود الروس من القادمين الجدد) الدخول في ائتلاف تشارك فيه أحزاب دينية (وهو نفس السبب الذي أدى إلى حل حكومة نتنياهو أواخر العام الماضي). وثالثها، قدرة الأحزاب الصغيرة (الدينية أو القومية) على لعب دور أكبر من حجمها، بترجيح كفّة أي من الحزبين الكبيرين، بحكم طبيعة النظام السياسي الإسرائيلي الذي تمت هندسته بشكل يتيح حتى للأحزاب الصغيرة أن يكون لها رأيها، لاسيما في حال عدم التوافق بين الأحزاب الكبيرة، بحيث تصبح كأنها تمتلك حق الفيتو، أو كأنها بمثابة بيضة القبان.
لا ينبغي أن يستنتج مما سبق أن إسرائيل باتت في أزمة سياسية مستعصية، بتشبيهها بأزمات عالمنا العربي، أو أنها آيلة للتحول إلى دولة شرق أوسطية، وغير ذلك من وجهات النظر التبسيطية والمتسرّعة والتي تنطوي على مبالغات إرادوية، إذ يمكن لإسرائيل التغلب على تلك الأزمة وغيرها، كما دلت التجربة، بفضل نظامها السياسي، القائم على الديمقراطية الليبرالية (بالنسبة لمواطنيها اليهود)، وبحكم قوة المؤسسات فيها، وتغليب أطرافها المختلفين الإجماع الإسرائيلي، بدعوى التهديد الوجودي الذي يحيط بإسرائيل من جوارها.
فوق كل ذلك فإن إسرائيل يمكن لها أن تحوّل تلك الأزمة لإعادة هندسة نظامها في ضوء التطورات الجديدة، وهو ما فعلته سابقا بالذهاب نحو انتخاب رئيس حكومة عبر صناديق الاقتراع. وربما يجدر التذكير هنا أن إسرائيل سبق لها أن انتهجت هكذا خيار في العام 1996، إبان التنافس بين نتنياهو وشمعون بيرز (زعيم حزب العمل)، بالموازاة مع انتخابات الكنيست، ثم جرت مرة ثانية في التنافس بين أريئيل شارون (زعيم حزب ليكود) وأيهود باراك (زعيم حزب العمل) في عام 2001، حيث تم التخلي عن هذا النظام بعد فوز شارون.
لعل ذلك يؤكد أن إسرائيل ليست دولة استثنائية، رغم ادعاءاتها الدؤوبة عن ذلك، وأنها ليست خالية من التناقضات والمشكلات، وإنما هي دولة كغيرها تعيش تناقضاتها الخاصة، أيضا، بين المتدينين والعلمانيين، وبين الشرقيين (السفارديم) والغربيين (الأشكناز)، وبين اليساريين واليمنيين، والفقراء والأغنياء، وبين القادمين الجدد (لاسيما من الاتحاد السوفييتي السابق) وباقي الإسرائيليين، ناهيك عن التناقض بين كونها دولة ديمقراطية أو دولة عنصرية (لاسيما إزاء مواطنيها الأصليين العرب الفلسطينيين)، وبين كونها دولة لليهود الإسرائيليين فيها أو كونها دولة ليهود العالم الذين تعتبرهم بمثابة أمة، إضافة إلى التناقض بين المعتدلين المؤيدين لتسوية مع الفلسطينيين تتضمن التنازل عن أراض محتلة، والمتطرفين الرافضين لذلك، من الذين يأخذون بعقيدة “أرض إسرائيل الكاملة”.
وفي عودة إلى موضوعنا، فإن إسرائيل ما زالت في حالة عدم يقين بخصوص الخروج من المأزق السياسي الراهن، وتشكيل حكومة إسرائيلية جديدة، بعد إجراء انتخابات تشريعية ثالثة، في مارس القادم، لأن كل استطلاعات الرأي تؤكد ثبات حصص الأحزاب في الكنيست بعد الانتخابات القادمة.
أما عن السيناريوهات التي يمكن أن تحدث فرقا، أو تغييرا سياسيا في إسرائيل، وفي المعادلات الحزبية القائمة حاليا، فهي يمكن أن تنجم، على الأرجح، عن أحد الاحتمالات الثلاثة الآتية: أولا، إخراج نتنياهو من السباق الانتخابي، إما بالإطاحة به في حزبه ليكود، أو بتقديمه للمحاكمة، نتيجة الاتهامات بالفساد الموجهة له. ثانيا، تغيير حزب إسرائيل بيتنا لنمط تحالفاته، سواء لصالح ليكود أو لصالح حزب أزرق ـ أبيض، مع علمنا أن فشل نتنياهو، سواء في المرة الأولى أو في الثانية، إنما يعود لسبب بسيط مفاده أن هذا الحزب وله 8 مقاعد في الكنيست يضع فيتو على المشاركة في حكومة تتواجد فيها الأحزاب الدينية (شاس مع 9 مقاعد، ويهوديت هاتوراه مع 7 مقاعد)، ويصر على تشكيل حكومة “وحدة وطنية” من الحزبين الكبيرين والأحزاب القومية اليمينية، أي من دون الأحزاب الدينية ومن دون العرب. ثالثا، تغيير النظام الانتخابي، واستعادة فكرة انتخاب رئيس الحكومة عبر صناديق الاقتراع مباشرة، وهو ما دعا إليه نتنياهو ذاته مؤخرا.
وفي الواقع فإن مجمل الاحتمالات صعبة ومعقدة سواء كانت بالنسبة لغانتس، أو بالنسبة لنتنياهو، مع تأكيد أن الأزمة السياسية الحاصلة في إسرائيل حاليا تنبع أساسا من الخلاف بين المتدينين والعلمانيين، أي بين الطابع الديني لدولة وطابعها العلماني، كما بين الأحزاب الدينية المتطرّفة والأحزاب العلمانية، وذلك ضمن مجموعة أخرى من الأسباب.