من أسف الطغيان على نفسه أنه يعادي الإنترنت. فكلما “دقّ الكوز بالجرة” قطعوا الإنترنت عن الناس خوفا من تواصلهم، وأملا في ألا يتمكّن السجل من تسجيل ما يرتكبون.
معظم دول العالم تعتبر خدمات الإنترنت شكلا من الخدمات العامة الأساسية، كالماء النقي والكهرباء. حزب العمال البريطاني، على سبيل المثال، يريد أن يجعل خدمات الإنترنت السريعة مجانية. لأنها كماء السبيل يجب ألّا يُحرم منه أحد، ولأن حق الحصول على المعلومات بات جزءا من حقوق الإنسان، ولأن حياة الناس وأعمالهم باتت مرتبطة بالإنترنت على نحو لا سابق له.
الكثير جدا من الخدمات الأخرى صار مرتبطا بالإنترنت، من التحويلات المصرفية إلى دفع الفواتير، ومن طلبات شراء البيتزا إلى البحث عن عامل بناء، ومن شراء تذاكر الطيران إلى بيع السلع، دع عنك كل شيء آخر من الرسائل إلى المطالعات اليومية. وكأنك دون هذا وذاك تعطل الحياة كلها، ثم تعود لتستغرب كيف أن قطع الخدمة يتحوّل من الناحية العملية إلى تشجيع غير مباشر على استكماله بعصيان مدني، يشلّ باقي أوجه الحياة الأخرى. وما هي بحياة أصلا.
ولكن في بلد لا ماء فيه ولا كهرباء، كالعراق، فإن قطع الإنترنت صار وسيلة من وسائل الحرمان الأخرى، ودليلا إضافيا على طبيعة الفساد فيه. وأعني فساد العقول، فوق فساد الجيوب.
فمنذ أن بدأ الحراك الشعبي والإنترنت تُقطع من حين إلى حين. الجلادون في إيران فعلوا الشيء نفسه. لأنهم، هنا وهناك، يخافون من الناس إذا تواصلوا. خوفهم الأهم هو أن تنكشف أعمالهم الوحشية ضد الأبرياء، بما يمكن للناس أن يصوّروه فيتقدّم كدليل على تلك الوحشية، وعليهم كحاكمين بالنار والحديد.
لا يريدون للعالم أن يرى كيف تثقب قنبلة غاز رأس متظاهر، فترديه قتيلا وتراه سابحا بدمه. لا يريدون أن يرى العالم كيف جاز للشباب أن يتقدموا بصدور عارية لمواجهة القنّاصة ورجال الأمن الذين درّبهم الولي الفقيه على الحقد الطائفي، وعلى النظر إلى كل من يطالب بحق مشروع على أنه عدو.
والعدو هو الملايين من البشر دفعة واحدة. وما أعجبه من استعداء. فلو كان الشعب الذي يتضوّر جوعا ويتلظى بالحرمان عدوّا، فمن هو- بالله عليك- الصديق؟
مع ذلك فإن معاداة الإنترنت تكشف عن وجه ما يفعلون، رغم أنها تقصد إخفاءه والتستر عليه. ولكنها معاداة غبية أيضا.
فما لا يريد الجلادون تصويره ونشره، يظل قابلا للتصوير والنشر بوسائل شتى. ومن حكمة التكنولوجيا أن أبوابها كثيرة، وأن مغاليقها تعجز عن منع الناس من تصوير ما يرون ونشره في أي حين. كل من يحمل هاتفا يصوّر. وبالتالي فإن كل ما يبقى من قطع الخدمة هو سوء الفهم، لا أكثر ولا أقل.
لا شيء يمنع أن يكون المسؤول الذي يأمر بقطع الإنترنت غبيا. وفي الواقع، ففي أنظمة كنظام الولي الفقيه، أو أنظمة تابعيه، فإنه ما كان ليكون مسؤولا في الأصل لو لم يكن غبيا. لا يسعد ذلك “الفقيه” إلا بغباء وخنوع من يعملون في خدمته. ليدلّك على أن بينه وبين الفقه سعة المسافة بين السماء والأرض. ولكن القرار، في النهاية، يشبه أمرا بقطع الماء عن الناس لعلهم يعطشون، أو قطع الكهرباء لعلهم يعمهون. فما كان هذا ولا ذاك، إلا حافزا للمزيد من الاحتجاجات، لأنه حرمان فوق الكثير الآخر منه. أفلا يفهمون أنهم بذلك كمن يطلق النار على نفسه؟
شركات الإنترنت، تظل على أي حال، تطالب بحقوقها وتعويضها عن خسائرها من جراء قطع الخدمة. فيضطر أهل السلطة إلى أن يدفعوا الثمن مرتين.
يشعر المرء أحيانا، أنه يجب أن يتوجّه لهم بالشكر قبل الإدانة. لأنهم من دون ما يرتكبون من فساد وضرر، كيف كان يمكن التخلص منهم، أو ما الذي كان سيبقى للمطالبة بسقوط نظامهم؟
وهم عندما يعادون وسائل التواصل بين الناس فلأنهم خائفون. خائفون ليس من الناس، ولكن مما فعلوا أن يرتد عليهم.
العيش بالخوف ليس عيشا في الواقع. فإذا كان من بسيط الفقه في الحياة، أن الجريمة تظل تطارد فاعلها، فلماذا ارتكابها أصلا؟
ولكن الحقيقة الأكثر جلاء لمن يراها، إنه لمن طبيعتهم بالذات أن يفعلوا ما يفعلون. وهم يعادون الإنترنت لأنها سجل عنيد.