في العمق، الجميع يريدون الرئيس سعد الحريري رئيساً للحكومة، ولو قالوا غير ذلك. فكلهم خائفون من الآتي، ويعرفون أنّ الانهيار الذي يبدأ مالياً ونقدياً واقتصادياً سرعان ما سيتحوّل انهياراً اجتماعياً، وربما أمنياً. وفي هذه الحال، لن يصمد البلد، ولن تكون هناك قيمة لأي سلطة فيه.
لذلك، الذين يطرحون الاسم تلو الآخر لرئاسة الحكومة، بدلاً من الحريري، إنما يناورون بالتأكيد، ويريدون رفع سقف التفاوض مع الحريري نفسه… أو مع ما يمثِّل ومَن يمثِّل، لأنه الأقدر على مخاطبة المجتمع الدولي خلال مرحلة يبدو فيها الدعم الخارجي مسألة حياة أو موت للبنان.
ووفق المطّلعين، حتى الاستشارات النيابية الملزمة لم يكن من المطلوب إجراؤها في موعدها الذي كان مقرَّراً أمس وتسمية المهندس سمير خطيب، بل كان متوقعاً أن يلجأ الحراك الشعبي إلى إقفال الطرق وتعطيل الاستشارات احتجاجاً. وحينذاك، ينفض أهل السلطة أيديهم من تهمة التلكؤ عن الدعوة إلى الاستشارات ويردّونها إلى مُطلقيها، أي الحراك. لكنّ موقف دار الفتوى حسم الأمر باكراً.
«الثنائي الشيعي» يريد الحريري حتماً في رئاسة الحكومة، و«التيار الوطني الحر» أيضاً. وحتى القوى الداعية إلى حكومة تكنوقراط، وتُرَشِّح نواف سلام مثلاً أو سواه، لا تعترض على الحريري إذا عاد ضمن تسوية مرحلية تدير المرحلة لأشهر عدّة، شرط أن تنسجم التركيبة الحكومية وبرنامجها مع مطالب الانتفاضة.
وفي هذه النقطة تحديداً تكمن مشكلة «الثنائي» و«التيار» مع الحريري: هو يتمسّك بحكومة التكنوقراط تجاوباً مع القوى الدولية، ولاسيما الولايات المتحدة، لأنها تقلّص نفوذ إيران في السلطة في لبنان. في المقابل، يرفضها «حزب الله» ويصرّ على التركيبة التكنو-سياسية لأنها تضمن استمرار نفوذه، كما هو حالياً.
فـ»الحزب» لا يجد نفسه مضطراً إلى استعجال التنازل داخلياً، ما دامت الأزمة الداخلية ترجمة للصراع الكبير بين واشنطن وطهران. وهو بالتأكيد لا يبادر إلى اعتماد أي خيار داخلي إلّا بالتنسيق مع طهران، سواء لجهة التنازل أو التشدّد.
ولا يبدو «الحزب» مقبلاً على إحداث تحوّلات مهمّة في موقفه، لأن لا شيء يوحي بتطورات قريبة في أفق الصراع الأميركي- الإيراني. ومن الواضح أنّ الإيرانيين يراهنون على «حَشر» إدارة الرئيس دونالد ترامب بعامل الوقت، مع دخوله العام الأخير من الولاية. وفي المقابل، قد يتشدَّد ترامب في الملف الإيراني، خصوصاً إذا كانت حساباته ترجِّح التجديد له ولاية ثانية.
وفي هذه الحال، سيكون لبنان في عين العاصفة، لأنّ الإدارة الأميركية لن تزيد مستوى ضغوطها على «الحزب» فحسب، بل على حلفائه وأركان الحكم ولبنان عموماً.
ومن باب الضغط، يتبلَّغ المسؤولون عبر مرجعيات وأقنية كثيرة أنّ لبنان لن يتلقّى دولاراً واحداً من المساعدات التي يرجو تحصيلها ليتمكن من الصمود خلال هذه المرحلة. وعلى العكس، سيتم التضييق على الواقع المالي والاقتصادي والنقدي في لبنان من أجل الضغط على «الحزب» والسلطة السياسية عموماً. وفي الترجمة الفورية، سيؤدي ذلك إلى سقوط لبنان في الهاوية لأن لا قدرة له إطلاقاً على مواجهة الولايات المتحدة.
وهذا المسار من التشدُّد الأميركي بدأ قبل 3 سنوات، لكنه ازداد قسوة بعد إيعاز الأميركيين إلى حلفائهم الغربيين والعرب كي يقفلوا «حَنفية» الدعم مهما اشتد الخناق على لبنان، ومهما بذل لبنان من مَساع ولجأ إلى وساطات. ولذلك، باءت بالفشل محاولات الحريري «استمالة» الدعم الفرنسي والخليجي قبل 17 تشرين الأول، كما ستفشل محاولته الأخيرة بتوجيه رسائل إلى بعض أصدقاء لبنان.
وهذا المناخ عبّر عنه المستوى العالي من الوضوح والجرأة في الدعوة التي تلقّاها لبنان إلى مؤتمر أصدقائه المقرَّر غداً في باريس. فقد عبّر الفرنسيون عن «قلق شديد» إزاء استقرار لبنان المعرَّض «للخطر». لكنهم لم يتراجعوا عن موقفهم: لا بدّ من الإصلاحات، ومن «حكومة فعّالة وذات صدقية سريعاً، والتجاوب مع التطلعات التي عبَّر عنها اللبنانيون»، أي الانتقاضة الشعبية. وهذا يعني أنّ الفرنسيين استبقوا المؤتمر بالتأكيد: لا تتوقعوا منّا أي مساعدة مالية في هذا المناخ!
قد بذل الفرنسيون حتى اليوم جهوداً لدعم لبنان وصديقهم الحريري والمساعدة على منع الانهيار، أو تأخيره قدر الإمكان لعلَّ الوقت يتيح إنتاج تسوية في اللحظة القاتلة. وهم مستنفرون للتوسط بين «الحزب» والأميركيين، ويحاولون تدوير زوايا الحكومة على الطريقة اللبنانية، أي وفق معادلة «لا يموت الديب ولا يفنى الغنم». لكنهم يصطدمون بتصلّب إيراني وبنهج أميركي أكثر تشدداً.
وكذلك، ستبقى مساعدات «سيدر» محجوبة قسراً، لأن لا ضوء أخضر أميركياً لتزويد لبنان ولو بحفنة من الدولارات تبقيه على قيد الحياة. وفي هذه الأجواء، سيتم التجاوب مع لبنان من باب «الشفقة» بتقديم مساعدات إنسانية لا أكثر. وهذا ما طالبَ به الحريري في رسائله الأخيرة إلى الدول الصديقة، والتي تضمّنت للمرة الأولى إشارات إلى «إغاثة لبنان» تموينياً.
وهكذا، فإنّ المغرمين بتحويل لبنان واحدةً من «جمهوريات الموز»، سيحققون أحلامهم. فليُحضِروا الصحون الفارغة والأمعاء الفارغة. «دِسْت» الإعاشة العربي والدولي جاهز. فلتأتِ الفضائيات لتتفرّج، كما تفرجت على شوارع نفاياتنا قبل أعوام… في أي حال، بعضٌ من شعبنا لا يتورّع عن التفتيش فيها ليملأ صحنه.