تتواصل تداعيات “انتفاضة البنزين” في إيران بعد أكثر من ثلاثة أسابيع على اندلاعها، خاصة بعد بدء الكشف عن مجرياتها التي حجبها قطع شبكة الإنترنت، وعن حصادها المريع المتمثل بمئات القتلى وآلاف المعتقلين والجرحى.
وهذا ما حدا بالرئيس دونالد ترامب لوصف قمع الاحتجاجات في إيران بأنه «وحشي»، وللتلويح برد قوي على أي تهديد من طهران لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة. على صعيد آخر، اتهمت بريطانيا وفرنسا وألمانيا، إيران بتطوير صواريخ باليستية قادرة على حمل رؤوس نووية، واعتبرت أفعالها “متعارضة” مع قرار الأمم المتحدة الخاص بالاتفاق النووي المبرم في العام 2015.
تؤكد هذه التطورات للموقف الإيراني الحرج داخليا وخارجيا على أن إيران ما بعد منعطف 15 نوفمبر 2019، موعد بدء الاحتجاجات الواسعة، لن تكون كما قبلها، وأن مستقبل نظامها يرتبط كذلك من دون شك بديمومة منظومة نفوذها المهتزة في العراق وسوريا ولبنان.
تميزت الاحتجاجات الشعبية الأخيرة بزخمها وامتدادها إذ حسب الرواية الرسمية فإنها طالت 29 محافظة من أصل 31، بينما تحدثت أوساط المحتجين عن وقوعها في 190 مدينة. وتتناقض الأرقام حول عدد الضحايا حيث تحاول السلطات إخفاء الحقائق وحصر العدد تحت سقف 200 قتيل وليس هناك من أرقام دقيقة عن الجرحى والمعتقلين.
من جهتها تتراوح أرقام الجهات المعارضة بين 600 وألف قتيل وحوالي أربعة آلاف جريح وبين سبعة آلاف وعشرة آلاف معتقل. ومن أجل تبرير ضراوة القمع أكدت وزارة الداخلية حصول هجمات ضد خمسين من المقرات أو القواعد العسكرية والأمنية وتضرر 183 عربة للشرطة وإحراق 731 مصرفا.
إزاء هذا الوضع الذي لم يتردد قائد الحرس الثوري الجنرال حسين سلامي في تشبيهه بالحرب العالمية، تخلى النظام عن أسلوب “القمع الذكي” الذي اعتمده في مواجهة احتجاجات 2017 و2018، من خلال عدم الاستخدام المكثف والعلني للقمع وعدم القطيعة مع المجتمع.
هذه المرة، وجد المرشد الأعلى علي خامنئي نفسه ملزما بالتدخل العلني والتركيز على مؤامرة الأعداء بعد يومين من اندلاع الانتفاضة، وسط قمع مفرط وإطلاق النار من دون إنذار. واللافت للنظر أن الاحتجاجات ممتدة على كل الرقعة الوطنية من كردستان وخوزستان وكرج وطهران وأرومية وتبريز (حيث المكوّن الأذري وهذا ما يفسر ربما الاتهامات التي وجهها مصدر رسمي لأذربيجان في سياق ما يسمى بدول التآمر).
من أجل التستر على القمع المفرط وحصيلته تم حجب الإنترنت بشكل محكم وقطع الاتصال مع الخارج للتستر على النفق الذي دخلت فيه المنظومة الحاكمة التي أججت الاستقطاب داخل البلاد. وما إنزال المظاهرات المؤيدة إلا دليل على مأزق الشرعية الثورية استنادا إلى أصوات لها خبرتها وتاريخها مثل مير حسين موسوي، أحد زعماء الحركة الخضراء المعارضة، والمقيم تحت الإقامة الجبرية منذ عام 2010، الذي شبّه تعامل السلطات الإيرانية مع الاحتجاجات الأخيرة بـ”تعامل الشاه محمد رضا بهلوي مع المتظاهرين ضده قبيل انتصار الثورة الإيرانية عام 1979″.
ويصل الأمر ببعض أركان النظام سابقا للحديث عن “انقلاب السحر على الساحر” وانكشاف الحقائق أمام الناس. إذ أن التذرع بالمؤامرة وبنتائج العقوبات الأميركية لا يغطي مسار فشل وفساد في إدارة الموارد أو تحويلها إلى الإنفاق العسكري والتوسع في الخارج.
بعد توقيع الاتفاق النووي في يوليو 2015 وصلت مبيعات إيران من النفط إلى 5.1 مليون برميل من النفط الخام يوميا، بالإضافة إلى حصولها على 150 مليار دولار من حساباتها المجمدة. وكان ذلك كفيلا في حال توجيهه للمكان المناسب بأن يتفادى تفاقم الأزمة الاقتصادية.
والأدهى من ذلك سيطرة الحرس الثوري الإيراني على حوالي ثلث الاقتصاد، وإذا قدرنا حجم المؤسسات والشركات التابعة للمرشد والعاملة تحت إشراف مكتبه، يتضح أن أكثر من نصف الاقتصاد الإيراني خاضع لمشيئة ومصالح الفريق الحاكم.
وما زاد من القلق الكبير في طهران استمرار الانتفاضة في كل من لبنان والعراق، وما يشهده الأخير خاصة في المحافظات الجنوبية من نقمة على التدخل الخارجي وما يتم توصيفه بالاستحواذ أو الأطماع الإيرانية.
ويدل تطور النظام القائم في طهران على أن استمراريته وسيطرته في الداخل ترتبطان بشكل وثيق بامتداده في الخارج. لذا يشكل تزامن الاحتجاجات سابقة تضع المشروع الإيراني الإمبراطوري أمام تحديات كبيرة راهنا وعلى المدى المتوسط.
في مواجهة تعاظم الغضب في الداخل ورفض الدور الإيراني في أكثر من مكان، شحذ النظام كل عدّة القمع لمنع المكونات الإيرانية من التطلع إلى التغيير الآني والضروري. ويحاول بكل الوسائل إطفاء جذوة الوطنية العراقية المتقدة، والإيعاز باحتواء الاحتجاج اللبناني.
لكن كل هذه المحاولات لن تخفي الأوضاع الصعبة في هذا المنعطف والسعي للتفاوض غير المباشر مع واشنطن عبر قناة سلطنة عمان وسويسرا. وعدم الرغبة في التنازل العلني أمام “الشيطان الأكبر” والتركيز على العداء مع “مجاهدي خلق” و”أنصار الملكية” بوصفهما من أدوات الاختراق الخارجي، لن ينجحا في طمس حقيقة الغضب الشعبي من جهة والقمع الجائر من جهة أخرى.
وما المواقف الأوروبية الأخيرة من تطوير منظومة الصواريخ الباليستية الإيرانية إلا عناصر قلق إضافية لنظام حاول عبثا تسويق اعتداله واستمرار تخويف الإيرانيين والعالم.
بعد منعطف الخامس عشر من نوفمبر 2019، ستكون الأشهر القادمة من العام 2020، مرحلة دقيقة في اختبار القوة بين واشنطن وطهران، وسيكون لها أثرها في تقرير مستقبل المنظومة الحاكمة وإعادة تشكيلها أو سقوطها، ويسري ذلك في نفس الوقت على مشروعها الخارجي.