في كلّ محطة من محطات هذه الثورة، ومع تقدم عمرها، تبرز الأسئلة حول الأدوار والواجبات المولجة بالمواقع الدينية الإسلامية والمسيحية ومدى تأثير الرئاسات والسياسات عليها، وهل يمكنها أن تنحاز إلى جانب الشعب في خياراته عندما يقترب الهيكل من الإنهيار على الجميع؟!
إن مقاربة الموقف من دار الفتوى ينطلق من دائرة متداخلة من الإعتبارات، كما هو الحال مع سائر المرجعيات الدينية.
فالمبادئ الدينية ترفض الظلم وتنادي بالحقوق للناس وتدعو للعدالة وتأمين العيش الكريم، ولهذا، فإن المنطق يقول إن هذه المرجعيات يجب أن تقف تلقائياً إلى جانب الشعب، وأن يهبّ رجالها متقدمين الصفوف، في مواقف وطنية تسكر الحواجز المصطنعة وتبني مداميك الوحدة الوطنية المعاصرة..
ينتظر الثوار من المرجعيات الدينية مواقف مباشرة وصريحة، تنابذ فساد الحكام وترفض سياساتهم التي أوصلت البلد إلى هذا السقوط المدوي، وتتصدى لقمع الحريات ولكلّ أشكال الإستهداف للثورة والعمل على تحصينها حتىنصل إلى تطهير الدولة من أوكار الرذيلة السياسية الشائعة..
حافظ الثوار على إحترامهم للمقامات والمرجعيات الدينية، وناشدوها التحرك وإستخدام مكانتها لترجيح كفة الشعب على كفة الفاسدين والظالمين من الحكام، ولكنهم فوجئوا بأن المرجعيتين الإسلامية والمسيحية (دار الفتوى والبطريركية المارونية)، سارعتا إلى التمترس الطائفي، فأعلنت بكركي رفضها إسقاط رئيس الجمهورية، فقط لأنه ماروني، وسارعت دار الفتوى إلى إعلان ربط مواقفها حصراً بالرئيس سعد الحريري، تحت شعار «حماية مقام» رئاسة الوزراء.
إتسم موقف بكركي في مواكبة الثورة بحيوية أعلى نسبياً من موقف دار الفتوى، ولكن العقدة بقيت في التأييد المطلق لرئيس الجمهورية المسيحي، رغم كيل الإتهامات بالفساد للطبقة الحاكمة، وكأنه غير مسؤول عن كل ما يجري، وهذا ترك إنطباعات سلبية في الشارع المسيحي قبل المسلم.
والأمر نفسه حصل في موقف دار الفتوى، فالتأييد مطلق للرئيس سعد الحريري، والتجاهل تام لكونه أُسقط تحت ضغط الشارع ولأنه شريك في التسوية ونتائجها الكارثية.
بقي الأمر في الدار مقتصراً على بيان سياسي أشبه بالمجاملات تجاه الثوار، من دون أي ترجمة عملية، وبدون أي توجيهٍ يصدر عن المديرية العامة للأوقاف يحدّد نقاط التلاقي والدعم للثورة، وسلك كلّ شيخٍ مسلكه الخاص، فبرز علماء يتقدمون المشهد، ويعلنون بوضوح وقوفهم إلى جانب الشعب في ثورته ومساندتهم لهذه الثورة، وإكتفى الغالب الأعم بالسكوت والتجاهل، بينما عمد البعض الآخر إلى التبرير والدفاع عن مواقف هذا السياسيّ أو ذاك.
هذا، بينما تماهى المجلس الشيعي الأعلى بشكلٍ كامل مع سياسات الثنائي الشيعي، إلى درجة المساهمة في حملة تشويه الحقائق في ما يتعلق بالحادث المؤسف الذي تعرض له المرحومان حسين شلهوب وسناء الجندي، فأصدر بياناً زايد فيه على الجيش الذي أكد تقريره أن الحادث قضاء وقدر ولم يكن أحد من الثوار متورطاً فيه.
بقي الجمود سيد الموقف مع تواصل المواجهات وتوسع الصراع وتتكل السلطة في قمعها للمتظاهرين السلميين، حتى بتنا نرى مشاهد إسقاط متظاهر من على جسر المشاة وضرباً وإعتداءات على النساء في سعدنايل، وهمجية في سحل وضرب المتظاهرين في ساحات بيروت وشوارعها.. بالتوازي مع إلتفافٍ سياسي واضح على مطالب الثوار بتشكيل حكومة كفاءات وتمادٍ في إنتهاك الدستور، من خلال فرض التأليف قبل التكليف، وسط صمتٍ مدوٍّ خرقه بيان رؤساء الحكومات الزاجر والغاضب.. والذي دفع رئاسة الجمهورية إلى الإعلان عن تنظيم الإستشارات النيابية الملزمة يوم الإثنين المقبل..
في كل هذه المحطات، كان مفتي الجمهورية والمجلس الإسلامي الشرعي الأعلى والمديرية العامة للأوقاف، أقرب إلى موقف المجامِل والمُشاهِد، في مواكبةٍ لموقف الصمت الذي إعتمده الرئيس سعد الحريري، والذي إنتهى على ما يبدو بتراجعه عن تبني حكومة الكفاءات، وإستئناف التسوية الرئاسية بشكلٍ أكثر تشويهاً، من خلال تبني ترشيح سمير الخطيب، الذي أخضع نفسه لإمتحانات الكرامة بين أيدي جبران باسيل والخليلين (الثنائي الشيعي) وسط تواطؤٍ مكشوف على خرق الدستور..
إنتظارات الثوار..
إنتظر الثوار من مفتي الجمهورية أن يخطب في جامع محمد الأمين صلى الله عليه وسلم، وأن يصدر تعميماً إلى خطباء الجمعة بتبني مطالب الثورة والإنخراط في صفوف الجماهير، ولكن ذلك لم يحدث، بل إستمر الخطاب مهادناً وبعيداً عن نبض الشارع.
كما إنتظروا من دوائر الأوقاف أن تستنفر لمواكبة التطورات، فتفتح أبوابها للتعاون في التخفيف من وطأة الأزمات المعيشية الخانقة، وهذا طبعاً لم يحصل..
بالتوازي مع إرتفاع منسوب الأسئلة حول دور دار الفتوى، كانت أوضاع مئات المشايخ تتفاقم، وبدأت أصواتهم تتعالى في عكار وطرابلس وصيدا.. فشهدنا إعتصامات وصرخات إحتجاج في وجه العجز عن تقديم الحدّ الأدنى من الحقوق لأعضاء السلك الديني.
رجال الدين الثوريون
برز في هذه الثورة رجال دين وعلماء نالوا إحترام اللبنانيين وتحوّلوا مصدر إلهامٍ للجمهور المتدين بطبعه المحافظ في سلوكه، الثائر في وطنيته، فكان أولهم متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة الذي سارع إلى التصدي لمحاولات تشويه الثورة، فتساءل لمن يدعون إلى فتح الطرقات للوصول إلى أعمالهم: وأين هي الأعمال التي يتحدثون عنها، معلناً إدانة التسوية الرئاسية بقوله إن الفراغ أحسن مما نعيشه اليوم. وكان المطران عودة في هذا الموقف يتسامى فوق الإعتبارات الطائفية والمذهبية، ليلاقي جمهوراً متعطشاً لكلمة الحق.
وفي الشارع الشيعي برز الشيخ ياسر عودة مذكراً بقواعد الإنتماء لآل البيت، المبنية على مواجهة الظلم وإدانة أشكال الفساد والسكوت عليه، منافحاً عن الثوار في وجه الدعايات السوداء، قائلاً: بدل أن تسألوا الناس في الطرقات من أين أتوا بثمن طعامهم.. إسألوا أصحاب السلطة من أين أتوا بأموالهم ومن أين سرقوا المليارات؟ رافضاً قلب الحقائق وشيطنة الثورة.. ومع نزوله للشارع، كان الشيخ عودة يتحول رمزاً للعالم الصادق الحامل لقضايا الشعب العادلة.
في المشهد الشيعي يحضر أيضاً الشيخ عباس الجوهري الذي إفترش أرض الساحات وعمل بمثابرة وعزم على الصمود في ساحات بعلبك وصور والنبطية، متمسكاً بخطاب الحق في التنمية ورفض إستغلال شعار المقاومة لفرض الحرمان على الناس.. وفي هذا السلوك نموذج طيب يراه الناس في موقعه عاملاً معهم وشريكاً في الأعباء والتضحيات.
في هذا الخضمّ، وفي المشهد السني، كان إمام مسجد السلام الشيخ بلال بارودي يواكب ثورة 17 تشرين الأول، منذ ساعاتها الأولى مسانداً ومنافحاً وناصحاً ومحذراً من الأخطاء والسقطات والإختراقات.. فكان حضورُه علامةً مميزة في طرابلس، أيقونة الثورة، فرفض الإنجرار إلى التصنيفات التي أطلقتها بعض الأوساط، رافضاً إدخال الثورة في أيّ إعتبارات جامدة، مؤكداً أنها ليست ثورة دينية، بل إن المشايخ ورجال الدين يجب أن يكونوا في عدادها، إنطلاقاً من مبادئ الدين الحنيف التي تحثّ على طلب العدالة والحق في العيش الكريم.
لم يكن رجال الدين والعلماء الذين ذكرناهم في مقالنا هذا الوحيدين الذين وقفوا إلى جانب الشعب في خياراته، ولكننا قدمنا تجربتهم كمثال وتحفيز للجميع، بأن يكسروا قيود الجمود ويدخلوا عالم الحرية، فما نحن فيه فعلاً أسوأ من أي واقع يخشون حصوله، مرددين قول أبي القاسم الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة ... فلا بد أن يستجيب القدر.