هناك أوجه شبه كثيرة بين العراق ولبنان. لكنّ هناك أيضا نقاط اختلاف كثيرة بين البلدين، أقلّه من ناحية المساحة والثروات الطبيعية والموقع الجغرافي والتركيبة السكانية الخاصة بكل منهما. على سبيل المثال وليس الحصر، لا وجود لقوميات مختلفة في لبنان حيث المسيحيون والمسلمون عرب، باستثناءات قليلة، في حين توجد في العراق أقلية كردية ذات وضع خاص. أقامت هذه الأقلّية سلطة خاصة بها في إقليم كردستان وسعت قبل سنوات قليلة إلى إقامة دولة مستقلّة، لكنّها فشلت في ذلك. كذلك، هناك في العراق أقليات أخرى مثل التركمان تجعل من العراق بلدا متعدّد القومية، إضافة إلى التعدّد في المذاهب والأديان…
هذا غيض من فيض نقاط الاختلاف بين بلدين، أحدهما يمتلك ثروة نفطية كبيرة، فيما الآخر معدوم من هذه الثروات. تسعى إيران إلى السيطرة على البلدين مستفيدة من استثمارها في إثارة الغرائز المذهبية، وفي إنشاء ميليشيات مذهبية استطاعت إقامة مراكز نفوذ لها فيهما.
على الرغم من كلّ نقاط الاختلاف، كان العراق دائما قريبا من لبنان، وكان لبنان قريبا من العراق. هناك عدد لا بأس به من اللبنانيين جمع ثروات من العمل في العراق ومع العراق. كان ميناء بيروت المكان الذي تنزل فيه البضائع المتوجّهة إلى العراق. عندما نهبت ميليشيا تابعة لأحد الأحزاب المسيحية في العامين 1975 و1976مستودعات الحوض الرابع في الميناء، شملت عملية النهب بضائع وآليات، تقدر قيمتها بعشرات ملايين الدولارات، كانت في طريقها برّا إلى العراق عبر الطريق البرّي الذي يمرّ بالأراضي السورية. لم يفهم الذين نهبوا الحوض الرابع معنى إلغاء دور ميناء بيروت الذي كان بين الموانئ المتوسطية الأكثر نشاطا، إذ كان ميناء أساسيا بالنسبة إلى العراق ودول أخرى، خصوصا بعد زوال دور ميناء حيفا إثر قيام إسرائيل في العام 1948.
لم تنزل القوات الأميركية في لبنان في العام 1958 إلا بعد الانقلاب العسكري ذي الطابع الدموي في العراق. سمح نزول القوات الأميركية بحصول تسوية في لبنان جاءت بفؤاد شهاب، قائد الجيش، رئيسا للجمهورية خلفا لكميل شمعون الذي سعى إلى ربط لبنان بحلف بغداد. كانت التسوية وقتذاك بين الإدارة الأميركية وجمال عبدالناصر…
كان الانقلاب الذي أطاح بالعهد الملكي مؤشّرا إلى نهاية العراق بمجتمعه الغنيّ بتنوّعه وانتقاله إلى مرحلة جديدة. كان التنوّع مصدر غنى للعراق إلى أن جاء الحكم العسكري، ثم البعث بكل ما يحمله من تخلّف وفكر لا علاقة له سوى بشعارات براقة تستخدم في تغطية نظام دكتاتوري بكلّ معنى الكلمة. انتهى بتفرّد صدّام حسين بالسلطة ابتداء من العام 1979. استتبع ذلك سياسات غير مدروسة ومغامرات غير محسوبة بدءا بالحرب الطويلة مع إيران وانتهاء باحتلال الكويت.
لم يحلْ التغيير الكبير في العراق دون بقاء العلاقة اللبنانية – العراقية. بقي العراق مهتمّا بلبنان في كلّ وقت. كانت له منظمة فلسطينية سميّت “جبهة التحرير العربية” تعمل انطلاقا من لبنان. كان هناك فرع للبعث العراقي في لبنان. كذلك، كانت هناك أحزاب يسارية عدّة تتلقى أموالا وأسلحة من العراق. إلى ذلك، تحوّل لبنان في مرحلة لاحقة إلى ساحة من ساحات الحرب العراقية – الإيرانية. كان أحد فصول تلك الحرب، التي شملت تصفية البعثيين الشيعة الموالين للبعث العراقي، نسف السفارة العراقية في بيروت عن بكرة أبيها. أدّى تفجير السفارة في منطقة الرملة البيضاء يوم الخامس عشر من كانون الأوّل – ديسمبر 1981 إلى سقوط عشرات الضحايا، بينهم الطاقم الدبلوماسي والموظفون اللبنانيون. تبيّن لاحقا أن حزب الدعوة العراقي الموالي لإيران وراء تلك العملية التي لم يكن النظام السوري بعيدا عنها.
لم ييأس العراق من لبنان على الرغم من تفجير سفارته التي انتقلت في بداية 1982 إلى المنطقة الشرقية (المسيحية). بدأ العراق وقتذاك بنسج علاقات مع الأحزاب المسيحية تُوجت بإرساله دبابات إلى قائد الجيش ميشال عون (رئيس الجمهورية حاليا) وإلى “القوات اللبنانية” في العام 1989. كان ميشال عون وقتذاك في قصر بعبدا بصفة كونه رئيسا موقتا لحكومة مهمتها انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفا للرئيس أمين الجميّل الذي انتهت ولايته في الثالث والعشرين من أيلول – سبتمبر 1988. لم تستخدم الدبابات كما كان مطلوبا، أي في مواجهة الاحتلال السوري، بل استخدمت في الحرب بين ألوية الجيش الموالية لميشال عون و”القوات اللبنانية” التي كانت لا تزال وقتذاك مجرّد ميليشيا من ميليشيات الحرب.
انكفأ العراق عن لبنان بعد العام 1990 إثر انشغاله بموضوع الكويت. وبعد الثالث عشر من تشرين الأوّل – أكتوبر 1991 عندما دخل الجيش السوري قصر بعبدا ومقر وزارة الدفاع في اليرزة، بدأ نظام الوصاية السورية. انتهى نظام الوصاية في السادس والعشرين من نيسان – أبريل 2005 بخروج القوات السورية من لبنان على دمّ رفيق الحريري.
يصعب تحليل الدور الذي لعبه العراق في لبنان بين 2005 و2019، باستثناء أنّه يمكن القول إن العراق الذي سلّمته الولايات المتحدة على صحن من فضّة إلى إيران في العام 2003، بات جزءا من الهلال الفارسي الذي يبدأ في طهران وينتهي في بيروت. كلّ ما حصل في السنوات القليلة الماضية هو تعزيز الوجود الإيراني في بغداد وبيروت، إضافة إلى دمشق طبعا. صار عُرفا أن تختار إيران من هو رئيس الوزراء في العراق، كما صار رئيس الجمهورية في لبنان هو من يرشّحه “حزب الله” لهذا الموقع.
في ظلّ التلازم بين الثورتين اللبنانية والعراقية، يتغيّر العراق ويتغيّر لبنان في الوقت ذاته. هناك أحداث استثنائية يشهدها البلدان. لا تزال هذه الأحداث ذات الطابع الاستثنائي في بدايتها. لكن الأكيد أنّه سيكون لها تأثير على صعيدين. الأول مستقبل لبنان والعراق، والآخر مستقبل إيران. هل ينهي اللبنانيون والعراقيون الهلال الفارسي؟ سيتوقف الكثير على قدرة إيران، بالمشاركة مع “حزب الله”، على إبقاء العراق ورقة إيرانية. ما ينطبق على العراق، حيث سيتقرر مستقبل النظام الإيراني، ينطبق أيضا على لبنان حيث محاولة فاضحة لفرض حكومة جديدة يتمثل فيها “حزب الله” مع ما سيجرّه ذلك من ويلات على البلد.