تحتشد المؤشرات التي تستشرف دخول مجلس التعاون الخليجي مرحلة جديدة تنتهي بها الأزمة مع قطر. من تلك المؤشرات ذلك الغموض البناء الذي يواكب الحراك الدبلوماسي في هذا الصدد، كما غياب أيّ مواقف من كل الأطراف يُشتمّ منها تعطيل أو معاندة أو عرقلة للسياق الحالي لطيّ هذه الصفحة. والظاهر أن كل دول مجلس التعاون الخليجي، بما فيها الأطراف المتنازعة مباشرة، باتت ناضجة لإنتاج تسوية تنهي خلافا تشعبت مستوياته إلى درجة يستعصي معها أي حل.
لم تكن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة إلى قطر وما نتج عنها من اتفاقات وما صدر عن هوامشها من تصريحات، إلا تأكيدا آخر على جدية أدركتها أنقرة للمساعي المبذولة بصمت للخروج من أزمة الانقسام في الخليج. تقصّد أردوغان إكثار الضجيج عن أفضال بلاده في حماية قطر (من جيرانها)، كما التذكير بالحضور العسكري التركي الحالي والمقبل داخلها. بيد أن كل هذه الوقائع جاءت لتؤكد هرولة الرئيس التركي للتموضع سياسيا وعسكريا داخل التسوية المقبلة التي يستعيد مجلس التعاون الخليجي دينامياته على أساسها.
على أن الورشة الخليجية تسير وفق خارطة طريق واضحة. قيل إن الإمارات ناقشت مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في زيارته الأخيرة لأبوظبي (وربما أتت استطلاعا للسياق التوافقي) أمر المساعي المبذولة لرأب الصدع داخل المنظومة الخليجية.
وقيل إن “دبلوماسية الرياضة”، من خلال مشاركة منتخبات السعودية والإمارات والبحرين في دورة “خليجي 24” لكرة القدم في قطر، هي مقدمة لـ”دبلوماسية السياسة” التي تجري خارج ملاعب الإعلام.
وقيل أيضا إن زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قبل أيام إلى أبوظبي ناقشت ملفات تتعلق بالأمر عشية القمة الـ40 لمجلس التعاون الخليجي التي تعقد، الثلاثاء، في الرياض.
على أن اللافت هو ما نشرته صحيفة “ذا وول ستريت جورنال” الأميركية عن زيارة سرية قام بها وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني في أكتوبر الماضي إلى السعودية لمناقشة أمر إنهاء الخلاف مع قطر.
نقل تقرير الصحيفة عن “مسؤول عربي” لم تسمّه، أن الوزير القطري قدم عرضا وصفته بـ”المفاجئ” لإنهاء الأزمة الخليجية، تُعرب من خلاله بلاده عن استعداد لقطع علاقاتها مع جماعة الإخوان المسلمين.
واللافت ليس الزيارة، ولا سريتها، ولا ما تسرّب منها، على أهميته. اللافت أن الأمر سربته صحيفة أميركية، وأن تشددا سعوديا قطريا في كتم الأنباء عن الزيارة عكس جدية تعويل الطرفين على آليات الحل.
واللافت أكثر أنه بعد كشف الصحيفة الأميركية، لم تصدر أي معلومة أو رد فعل عن الرياض والدوحة، ولم يصدر أي موقف عن جماعة الإخوان المسلمين ينفي الأمر أو حتى يهاجم احتماله.
الأمر يعني أن مصالح الدول المعنية التقت في لحظة استراتيجية استثنائية لاستعادة منطق الدول وأجنداتها على حساب الجماعات والتيارات، وأي أحزاب سياسية هنا وهناك.
والأمر يعني أن العواصم الكبرى، وفي مقدمتها واشنطن، باتت تعتبر مع دول المنطقة أن إنهاء الخلاف وإعادة اللحمة الخليجية، حتى وفق قواعد وشروط ومسلمات جديدة، بات أمرا مطلوبا، خصوصا، وللمفارقة، أن التحالف الغربي، الأوروبي الأميركي، كما روسيا والصين ودول العالم الأخرى حاولت، أو ادّعت، بذلها جهودا لإنهاء الخلاف.
في المعلومات القليلة، إن الأمر يأتي وفق استنتاج خليجي بعدمية التعويل على الولايات المتحدة، ولاسيما تحت إدارة دونالد ترامب، لتوفير الأمن الاستراتيجي العام، ما أعاد الاعتبار إلى الفكرة الأصلية لقيام مجلس التعاون الخليجي، وهي البحث عن الأمن من خلال وحدة البيت الخليجي ورصّ صفوف أعضائه.
وفي المعلومات القليلة أيضا، أن المزاج الخليجي التوافقي لا يعاند مزاج الإدارة في واشنطن، بل إن الزيارات الأخيرة لوزير الخارجية القطري ووزير الشؤون الخارجية العماني يوسف بن علوي ونائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان في أوقات مختلفة إلى العاصمة الأميركية في الأسابيع الأخيرة، أسست لتوافق داخل الإدارة الأميركية، ولاسيما بين البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية، لدعم المقاربة الخليجية الجديدة في التعامل مع ملفات عديدة: اليمن، قطر، وإيران.
وفق تلك الرؤية يجري تفكيك عُقَد المنطقة بشكل مترابط أو مستقل داخل سياق واحد. بات واضحا أن عُمان تلعب دورا هاما في تقريب وجهات النظر داخل ملف قطر كما ملف إيران. وأن حركة بن علوي صوب واشنطن كما صوب طهران، ترسم ملامح لضخّ حرارة داخل أوردة الحوار بين إيران ودول المنطقة. تأتي الجهود العمانية غير بعيدة عن نهج الإدارة الأميركية في المطالبة بمفاوضات مع إيران لإنتاج اتفاق جديد بشأن البرنامج النووي وبحث ملفات أخرى، ولاسيما برنامج إيران للصواريخ الباليستية والسلوك الإيراني المزعزع للاستقرار في المنطقة. والظاهر أن جدية ملف التفاوض هو الذي يربك طهران ويجعل أداءها ركيكا، خصوصا بعد الضغوط غير المسبوقة التي يتعرض له نفوذها في العراق ولبنان، كما الأخطار التي تحيط باستقرار نظامها جراء الاحتجاجات الداخلية التي عرفتها إيران، والتي وصلت ضراوتها وخطورتها إلى درجة قطع شبكة الإنترنت في إيران وعزل البلاد عن العالم.
لم يصدر عن السعودية ما يوحي رسميا بأن إنهاء الخلاف مع قطر بات واردا إلا ذلك الذي تسرّب من بيان مجلس الوزراء السعودي برئاسة الملك سلمان بن عبدالعزيز، الثلاثاء الماضي، الذي “رحب بقادة دول مجلس التعاون الخليجي لعقد اجتماع الدورة الأربعين للمجلس الأعلى لمجلس التعاون الخليجي”، في الرياض، والحديث عن أن القمة ستبحث “الموضوعات المهمة لتعزيز مسيرة التعاون والتكامل بين الدول الأعضاء في مختلف المجالات، وكذلك تدارس التطورات السياسية الإقليمية والدولية، والأوضاع الأمنية في المنطقة”. والواضح أن الحذر ما زال مخيما في صياغة البيان، إما تجنبا لما لا يزال قيد البحث، و إما حماية لإنجازات تم تحقيقها حتى الآن.
على أن ما صدر عن الرئيس الإيراني حسن روحاني، إثر استقباله وزير الشؤون الخارجية العماني، الثلاثاء، من أنه لا مانع لدى طهران من استئناف العلاقات مع السعودية، في إطار حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة، يميط اللثام عن مضمون المداولات التي يجريها بن علوي، وملاقاة إيران ورئيسها لجهوده. واللافت أن مقاربة بن علوي أتت بعد زيارة قام بها إلى واشنطن واجتماعه مع وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، وأن طهران وجدت مخرجا لأهداف الوزير العماني بوضعها في إطار “بحث مبادرة هرمز للسلام المطروحة من قبل إيران لتهدئة الأوضاع في المنطقة”، وفق وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “إرنا”.
على هذا تبلغت تركيا وإيران، اللتان من المفترض أنهما حليفتان لقطر، بأن الأجواء الخليجية- الدولية ذاهبة في اتجاه طيّ الخلاف مع قطر. لن تبقى الأزمة مناسبة مفتوحة لتسلل إيراني تركي إلى قلب البيت الخليجي، فإذا ما بقي الخلاف الخليجي مع إيران، فإن ذلك سيكون وفق المعطى التوافقي الجديد، وإذا ما استمرت تركيا في ممارسة سياساتها المتوترة مع الرياض وأبوظبي، فذلك سيكون أيضا وفق المعطى الجديد.
من المهمّ أن نراقب مستوى الحضور في القمة الخليجية فهو المؤشر الوحيد على واجهة الوفاق من عدمه. ومهمّ أن نراقب تفاصيل قادمة في اليمن فهي مؤشر آخر على أعراض الوفاق الخليجي مع طهران من عدمه.