يبدو أن الآمال التي عُقدت على التوافق الذي جرى مؤخّرا بين حركتي فتح وحماس، أي السلطتين في الضفة وغزة، في شأن التوجه نحو تنظيم انتخابات تشريعية، هي الثالثة من نوعها بعد إقامة السلطة عام 1993، لإنهاء حال الانقسام الفلسطيني، لم تستمر طويلا، أو لا يمكن التعويل عليها. أما في خصوص تفسير هذا الأمر فلا يمكن إحالته إلى مجرد عدم إصدار الرئيس الفلسطيني محمود عباس المرسوم اللازم للشروع في تلك العملية، وذلك مؤشّر سلبي طبعا، وإنما لأن التوتّر بين الطرفين المعنيين عاد إلى سابق عهده، أيضا، على خلفية إنشاء مستشفى أميركي في غزة، والحديث عن قبول إسرائيل بمنفذ بحري للقطاع في جزيرة عائمة، وبقية المشاريع المتعلقة بإمكان إنشاء مطار، ومناطق صناعية في غزة، ما يوحي بأن المخاوف الناجمة عن مشاريع فصل الضفة عن غزة باتت أمرا واقعا، وربما لم يعد بإمكان الفلسطينيين تلافيها أو مواجهتها.
اللافت في الجدل الدائر بين الفصيلين أو السلطتين المهيمنتين في الضفة وغزة، حول هذا الأمر، أن قيادة فتح، وهي ذاتها قيادة المنظمة والسلطة، تأخذ على حركة حماس قبولها مستشفى أميركيا، وتساوقه مع مشروع إنشاء المطار والمناطق الصناعية ومختلف مشاريع “الإنعاش الاقتصادي”، في غزة، حيث يعيش مليونا فلسطيني تحت الحصار منذ 12 عاما، متهمة إياها بالانخراط في مشروع ما يسمى “صفقة القرن”، والتي يقف في مركز استهدافاتها فصل غزة عن الضفة.
المشكلة في هذا الجدل، بغض النظر عن رأينا فيه، أن قيادة فتح ذاتها كانت وضعت كل رهاناتها على الولايات المتحدة ، منذ عقد اتفاق أوسلو عام 1993، وأن السلطة الفلسطينية في ظل قيادتها، كانت تتلقى مئات الملايين من الدولارات لدعم موازنتها، وللقيام ببعض المشاريع التي تتعلق بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية في الضفة والقطاع (أوقفتها إدارة الرئيس دونالد ترامب العام الماضي)، بل إن تمويل أجهزة الأمن الفلسطينية كان في معظمه يأتي من الولايات المتحدة ومن بقية الدول المانحة، حتى أن الجنرال الأميركي كيث دايتون هو الذي تولى تدريب أو تأهيل تلك الأجهزة منذ العام 2007.
وفضلا عن ذلك، فنحن نعرف أن قيادة فتح ذاتها هي التي وقعت على اتفاق باريس الاقتصادي الذي رهن الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي عام 1994، وأنها هي التي فصلت قضية فلسطين المتعلقة باحتلال الضفة وغزة عام 1967 عن قضية فلسطين المتأسّسة على نكبة عام 1948، وأنها هي التي همّشت منظمة التحرير، التي لم يعقد مجلسها الوطني دورة عادية له إلا في العام 1996، أي بعد ثلاثة أعوام على إقامة السلطة، وأن الدورة التالية الـ23 للمجلس الوطني حصلت بعد 22 عاما أي عام 2018.
القصد من كل ذلك ليس تفنيد ما تقوله فتح، في حق حماس، في دفوعاتها ضد المشاريع التي ترمي إلى فصل غزة عن الضفة، وإنما تذكير تلك الحركة بأنها هي التي فتحت هذا المسار، وأنها تتحمل مسؤولية عن تشريع ما وصلت إليه حماس، بعد أن سبقتها هي إليه، قبل ربع قرن، وأنها هي السباقة في تغليب طابعها ومصالحها وأولوياتها كسلطة على طابعها ومصالحها وأولوياتها كحركة تحرر وطني، أي أن حماس انتهت بدورها إلى ما كانت فتح وصلت إليه.
المغزى من كل ما تقدم أن حركة فتح معنية أمام شعبها، بالقيام بمراجعة نقدية، وضمنه تقديم اعتذار عن الخيارات التي انتهجتها، والتي تبينت عن إخفاقات مضرة وخطيرة، ولاسيما أنها هي التي شرّعت كل ما يجري، وضمنه ما تقوم به أو ما يمكن أن تقوم به حماس في غزة، وذلك كي تضفي مصداقية على كلامها.
أما في ما يخصّ حركة حماس، فيبدو أن موافقتها المفاجئة على إجراء انتخابات تشريعية، بعد أن تنازلت عن شروطها السابقة، والتي ظلت متمترسة عندها سنوات طويلة، كان مجرد خطوة للتغطية، أو لتمرير قبولها بالمشاريع المذكورة. ولا شك أن هذا يعني في ما يعنيه الدخول في هدنة طويلة الأمد، وإيلاء مصالح الفلسطينيين في غزة أولوية على أي موضوع سياسي، وهو أمر على وجاهته، إلا أن الحركة أخذته لتعزيز مكانتها في السلطة والتخفف من الضغوط عليها.
والفكرة هنا أن حماس وصلت متأخرة إلى حيث انتهت فتح، وأنها لم تصل إلى ذلك نتيجة دراسة واعية لموازين القوى، وللمعطيات العربية والدولية، ولقدرة الشعب الفلسطيني على التحمل، فهي لم تلق بالا لكل ذلك طوال هيمنتها كسلطة على قطاع غزة، فحتى مسيرات العودة لم توقفها إلا مؤخرا، أي بعد مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعوقين، وإنما هي وصلت إلى ذلك نتيجة الضغوط التي سلطت عليها، ونتيجة تجفيف مصادر دعمها، ونتيجة حالة الضغط الشعبي التي باتت تعيشها أو تحس بها في قطاع غزة.
على ذلك فإن حماس معنية أيضا بتقديم كشف حساب، أي بمراجعة نقدية لخياراتها، وتقديم اعتذار لشعبها عن كل ما حصل، في انتهاجها لهذا الخيار وفي تراجعها عنه حتى تتبين عن مصداقية، فمن غير المعقول أن ذات الخيار كان صحيحا بالمطلق في مرحلة ما وخاطئا بالمطلق في مرحلة أخرى، وليس صحيحا أن ما فعلته فتح في مجال معين كان خاطئا في حين أن ما تفعله حماس في ذات المجال هو صحيح، وبالعكس.
ما يحصل يؤكد أن الفلسطينيين في معضلة كبيرة، مفادها، أولا، أن فصائلهم تحكّم مصالحها الضيقة والسلطوية، على حساب المصلحة الوطنية، وعلى حساب مصلحة شعبها. وثانيا، أن الخلافات بين الفصيلين الكبيرين والمهيمنين، أي السلطتين، هي التي تسهم في إضعاف مصداقية القضية الفلسطينية، وتسهل على إسرائيل تكريس هيمنتها.
الآن، بعيدا عن مصلحة فتح وحماس، وادعاءاتهما، وبعيدا عن منازعات السلطة، مطلوب حث الجهود لرفع الحصار عن مليوني فلسطيني، بأيّ شكل من الأشكال وبغض النظر عن أيّ ادعاءات، ويبقى أن على الفصيلين المعنيين تحويل ما يجري إلى فرصة، سواء لتمكين الفلسطينيين من الصمود في أرضهم، أو لإعادة بناء البيت الفلسطيني على أسس جديدة، تغلب فيه مصالح وأولويات حركة التحرر الوطني على مصالح وأولويات السلطة، مع إعادة الاعتبار للتطابق بين أرض فلسطين وشعب فلسطين وقضية فلسطين.