بعد تقرير هينيس بلاشيرت ممثلة الأمم المتحدة في العراق خرجت القضية العراقية من نطاق سيطرة الحكومة العراقية.
سيفتح ذلك الآفاق في اتجاه تحوليْن خطيريْن. الأول يتمثل في شعور المحتجين بأن صوتهم وصل إلى العالم، والثاني يكمن في الانكماش الذي ستشهده آلة القمع الحكومي التي صارت تحت النظر.
وإذا ما كانت بلاشيرت قد أشارت صراحة إلى أن الأزمة لا يمكن حلها بإجراءات ترقيعية مؤقتة، فإن تلك الإشارة تتوافق مع الرفض الشعبي للأشخاص الذين ترشحهم الأحزاب لرئاسة الحكومة بدلا من عادل عبدالمهدي الذي استقال بعد وقوع مجزرتين في النجف والناصرية.
فالمسألة تجاوزت الخلاف على مَن يحكم، إلى السؤال التقليدي الذي يضبط العملية الديمقراطية والذي قفزت عليه الأحزاب وهو “كيف يتم الحكم؟”.
بالنسبة للمحتجين فإنه ليست هناك أهمية لمَن يحكم، بل المهم هو أن يجتاز السياسي الذي يحكم اختبار مصداقيته في طريقة الحكم. ولقد فشل جميع سياسيي الأحزاب الحاكمة، من غير استثناء في ذلك الاختبار عبر مهلة الستة عشر عاما السابقة.
في مناسبات عديدة اعترف سياسيو العراق بأنهم أخفقوا في إنصاف الشعب، غير أنهم في الوقت نفسه لم يكونوا يظنون أن ذلك الفشل سيكون سببا في الإطاحة بهم وأفول نجمهم.
لقد أغوتهم لذائذ السلطة ومتعها الرئيسة والجانبية فصاروا يعيثون في الأرض فسادا بطرق مختلفة. حتى بدوا كما لو أنهم بصدد تأليف موسوعة للفساد البشري عبر التاريخ من خلال سلوكهم المباشر.
وليس مستبعدا أنهم قد فقدوا كل حواسّهم مغمورين ببحر فسادهم. فهم لا يرون ما آلت إليه أحوال العراق من خراب في ظل حكمهم. وهم لا يسمعون الصرخات التي تندد بالفقر والفاقة والجوع والحاجة. وهم لا يشمّون الرائحة العفنة التي تحيط بهم من كل جانب وهي رائحة فسادهم.
وهم أيضا لا يلمسون الجمرة التي كانت تتقد في عقول وقلوب العراقيين الذين انتظروا سنوات طويلة من غير أمل.
حين قامت التظاهرات اعتقدوا أنها فقاعة سيتمكن مقتدى الصدر من تفجيرها والانقضاض عليها. غير أن الصدر وجد نفسه معزولا هذه المرة. فعل الرجل ما بوسعه لاحتواء التظاهرات خاصة وأنه كان المسؤول عن صعود عبدالمهدي، غير أنه فشل فاختار أن ينأى بنفسه. وحين أخفق الصدر لم يجدوا سوى اللجوء إلى الوصية الإيرانية في قمع التظاهرات وسيلة لإنهائها. وهو ما قاد الأوضاع إلى مرحلة اللاحل. وهي مرحلة لن يتمكن أحد من تقديم العون لهم من أجل الخروج منها سالمين. وقد يكون وضعهم تحت الرقابة الدولية نهاية طبيعية لمسيرتهم.
هناك جرائم ضد الإنسانية ارتكبت في العراق لن ينفع لمحوها حتى سقوط النظام برمته. وهو ما يفترض أن يكون سياسيو الأحزاب الحاكمة على بينة منه بعد التقرير الأممي.
حتى الماضي القريب كان هناك وهم استفاد منه السياسيون اسمه المرجعية الدينية. فقد لعبت تلك المؤسسة دورا خطيرا في الالتفاف على الكثير من القضايا المهمة من خلال التحذير المبطّن من أن يفقد الشيعة الحكم.
الآن لم تعد تلك اللعبة تنطلي على أحد. فالمحتجون أداروا ظهورهم للمرجعية لا لأنهم لا يكنون لها احتراما، بل لأنهم يحترمونها ويرغبون في ألا تدنّس نفسها في العمل على إسناد الفاسدين.
كما أن شيعية الحكم المطلقة صارت تشكل بالنسبة لهم واحدة من مخلفات الماضي بعد أن عثروا على الطريق التي تقودهم في اتجاه عراقيتهم. تلك صفة يمكنهم من خلالها أن يعثروا على وطنهم الضائع. لقد عاد الشباب إلى الثوابت الوطنية التي ظن الكثيرون أنها قد انمحت بشكل نهائي. ذلك هو مصدر قوتهم وهم يواجهون الرصاص الحي بصدور عارية.
في أحد الأفلام المصورة في الميدان رأيت شابا يقف أمام ملثم مسلح. يقول الملثم وهو يشهر سلاحه “سأقتلك”. يجيبه الشاب “اقتلني” فيقتله. ذلك المشهد بمأساويته يلخص هزيمة النظام.