منذ 29 تشرين الأول دخلت البلاد مرحلة تصريف الأعمال، أي مرحلة من الـجمود والـموت البطيء.
جاءت استقالة الرئيس سعد الحريري على وقع الثورة الشعبـيـة العابـرة للطوائف التـي عمّت البلاد من أقصى شـماله إلى أقصى جنوبـه وبقاعه، مُطالبـةً بأبسط الأمور الـحياتيـة التـي سرقتـها الطبقة السياسية الفاسدة طوال ربع قرن من عيون الأطفال والشباب والشيوخ والعُجّز واليتامـى.
90 مليار دولار ديـناً، وشعب لبنان لا يزال يعيش فـي القرون الوسطى على كل الصّعد، فالفساد الذي تغلغل فـي كل مفاصل الدولة، أكل كل شيء: لقمة العيش، فرص العمل، الصحة والتعليـم والبيئة والضمان والأمان والعيش الكريـم. والغريب أننا لـم نشهد يوماً أيّ فاسد فـي السجـن، لا فـي «العهود الضعيفة» ولا فـي «العهد القوي»، لأنّ جـميع الأفرقاء دخلوا لعبة الـمحاصصة وتقاسـم مغانـم السلطة. والغريب أيضاً أنّ غالبية اللبنانـيـيـن، على رغم الفقر والذلّ الذي أصابـهم، لا يزالون يدافعون عن أحـزابـهم ويؤلّـهون قادتـهم، وينفي كل فريق تـهمة الفساد عن حزبه ويلصقها بالـحزب الـخصم. هذا التـحيـيـد جعل مؤيّدي أحزاب السلطة يرون أنّ الأزمات التـي تعصف بالوطن والتدهور الإقتصادي والـمالـي، ليست انعكاساً لفساد أحزابـهم، بل نتيجة فساد الآخريـن، حتـى لو كانوا من حلفائـهم.
نـزل مليون لبنانـي إلى الشارع احتجاجاً على تدهور الأوضاع الإقتصادية والـمعيشية، وتعاظُـم الفساد والنـهب، ليطالبوا بـحكومة إنقاذ حيادية من الاختصاصيّـيـن، وباستقلالية القضاء واستعادة الأموال الـمنهوبة، على أن تـحضّر الـحكومة لانتخابات مُبـكرة تـجرى بعد 6 أشهر. لكنّ فريق السلطة يُـصرّ على أن تكون الـحكومة الـمقبلة تكنو- سياسية، بـمعنـى أن تضمّ شخصيات أكاديـمية ومتـخصّصة في مجالات عملها، إضافةً إلى مـمثليـن عن الـحراك الشعبـي، إلى جانب التـمثيل السياسي الـمعروف. فـي حيـن يرى رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب مـحمد رعد «أنّ الأزمة الـحالية لا تُـحَلّ إلّا بتشكيل حكومة وحدة وطنية، وفق صيغة اتفاق الطائف، وغيـر هذا سيبقى البلد فـي ظلّ حكومة تصريف الأعمال». وأردف: «وما لـم يقدر عدوّنا على أن يأخذه بـحربيـن، لن نعطيه إيّاه بالاقتصاد». علماً أنّ دستور الطائف لـم ينصّ على تشكيل حكومات وحدة وطنية، لا من قريب ولا من بعيد، وقد أثبتت هذه الـحكومات إخفاقها وعطّلت دور مـجلس النواب فـي مراقبة أعمالـها. ولكن يعتقد «حزب الله» أنّ حكومة اختصاصيّـيـن لن يكون له وزن فيها، وستطالب بالاستـراتيجية الدفاعية التـي يتـهرّب الـحزب منها منذ عام 2006، وستلوى ذراعه الـمُنتصِرة فـي سوريا ولبنان.
الواضح أنّ إيران لن تسـمح بسقوط الأنظمة فـي لبنان والعراق، ولن تتـخلّى عن نفوذها بالسهولة التـي يتصوّرها البعض، حتـى ولو سبّـبت فتنة طائفية. ففي مـحاولة لإثارة ثورة مضادة، هاجـم مئات من الشباب الذين يـحملون رايات «حزب الله» الـمتظاهريـن فـي عدد من الـمدن وتـمكّنوا من إيذائهم جسدياً وإرهاب الناس فــي بيـروت وخارجـها، خصوصاً فـي البلدات والـمدن الشيعية.
إنّ الثورة الشعبية الرائعة التـي حـملت بُعداً وطنياً ومشاركة من جـميع الطوائف والـمذاهب والـمناطق فـي لبنان والعراق، تسبّـبت بارتباك واضح فـي الـخطاب السياسي الإيرانـي، لدرجة مـهاجـمة التظاهرات واتـهام الـمرشد العام للثورة الإيرانية علي خامنئي الولايات الـمتحدة وإسرائيل بالـمسؤولية عن أعمال الشغب وانعدام الأمن فـي لبنان والعراق.
لو لـم تشعر إيران بالـخوف الشديد على نفوذها فـي لبنان والعراق، لَـما خرج أكبـر مرجع ديـنـي وسياسي فـي الـجمهورية الإيرانية ليدعو حكومة كلا البلديـن الى قمع الاحتجاجات. وفـي العراق إتـهم الـمتظاهرون «الـحرس الثوري» الإيرانـي و»الـحشد الشعبــي» الـموالـي لطهران بالـمشاركة مباشرة في قمع الـتظاهرات والتسبّب بقتل الـمحتـجّيـن. وفـي لبنان قرر «حزب الله»، وبإيعاز من طهران، ترويع الـمتظاهرين فـي شوارع لبنان باستخدام مناصريه الذيـن اعتدوا على الـمتظاهريـن بعنف، وحطّموا الـخيـم والسيارات والـمحال التـجارية.
من الواضح أنّ إيران متوجّسة مـمّا يـجري فـي شوارع بيـروت وبغداد وخائفة من إطاحة ما أنـجزه حلفاؤها عبـر صناديق الإقتـراع فـي كلا البلديـن بعدما أصبحوا الفريق الأقوى فـي الـمجلس النيابـي والــحكومة. هذا الواقع يدفع «حزب الله» إلى التشدّد وتعزيز قبضته على البلاد، وعدم السماح بتأليف حكومة لا يكون له فيها الثلث الـمعطّل مع حلفائه. وهنا تكمن الـمشكلة الـحقيقية الــتـي لن يستطيع رئيس الـجمهورية تـخطّيها، وتـجعل رئيس الـحكومة الـمستقيلة سعد الـحريري خارج السلطة.
يقول كارل ماركس: «أيّ فئة تطمح إلى الـهيمنة، يـجب عليها أولاً التـمكّن من السلطة السياسية لتـمثّل بدورها مصالـحها الـخاصة كأنـها الـمصلحة العامة».