كل التطورات المعلن عنها والمخفي منها يؤكد من دون أي شك أنه دون التفاهم على التشكيلة الحكومية الجديدة عقبات جدية وصعبة. فكبار المعنيين بالأزمة لا يقرأون في كتاب اللقاءات اليومية، ولا يبنون مواقفهم على ما هو معلن من مواقف تلي هذا اللقاء أو ذاك. ففي خلفية فَهمهم لحجم الأزمة، يتوقفون امام مجموعة من المخاوف التي تعود في معظمها الى الأجواء الإقليمية السائدة. وهم يعرفون حق المعرفة أنّ المخارج غير متوافرة في الوقت الراهن، وما عليهم في هذه المرحلة سوى بناء الآمال على خطوات مستحيلة التحقيق يمكن إمرار الوقت من خلالها ما لم يتم التمهيد لها في مواقع أخرى من المنطقة.
لا يعترف البعض بأنّ الأزمة أعمق ممّا يتصوره أحد، فالتحولات في المنطقة والخطط المتضاربة، التي جنّدت لها كل الوسائل العسكرية والديبلوماسية والإقتصادية التي تمتلكها قوى كبرى، ينعكس على ما يجري في لبنان. ولذلك فإنّ حديث البعض عن انتصارات واهية وشعور البعض الآخر بخيبات ما هو سوى شعور وهمي ومرحلي، لم يُبنَ على الكثير من الحقائق. فالوضع في لبنان لم يعد ملكاً لمَن يقودون المواجهة في الداخل، ودون اعترافهم بالفشل عوائق عدة تتصل بمواقعهم وبهيبة البعض منها.
على هامش ما حققه حضور المهندس سمير الخطيب في إطار السعي الى إطلاق المشاورات النيابية الملزمة، تَوصّلاً الى تشكيل الحكومة الجديدة، تعددت الأخطاء «المقصودة» من أجل الوصول الى ما وصل اليه الوضع المأزوم اليوم. فالعارفون بالكثير ممّا بقي طَي الكتمان يجزمون انّ ما رفع في الساعات الأخيرة من حواجز تحول دون وصول الخطيب الى السراي ليس من أجل إبقاء الحريري مرشحاً وحيداً، وليس من أجل ان يحقق الحريري ما أراده من دور ومهام وشكل وتركيبة الحكومة التي يريد تشكيلها وترؤسها والتي لا ترضي أحداً من خصومه، خصوصاً ممّن يتربّعون اليوم على عرش الأكثرية النيابية، بل من أجل عدم الوصول الى مرحلة متقدمة من حل للأزمة التي تشابَك فيها ما هو سياسي بما هو اقتصادي ونقدي وما هو داخلي بما هو خارجي، وصولاً الى مرحلة لم يتصورها أحد من اللبنانيين.
وعلى هذه المعطيات ثمة من يعتقد انّ معظم ما رافقَ مشروع تسمية المهندس الخطيب، منذ ان طرح اسمه، شَكّل مزيداً من التحدي الذي رافق تسمية من سَبقه الى هذه المهمة. فالحديث عن ربط التأليف بالتكليف والسعي الى التفاهم على شكل الحكومة وكيفية توزيع حقائبها وأسماء الوزراء ليس من مستلزمات المرحلة دستورياً على حساب الدعوة الى الاستشارات النيابية الملزمة، وانّ الاستناد الى قوة غير دستورية في إدارة المرحلة ليس في مكانه.
ومن يريد التثبّت من صحة هذه النظرية عليه ان يعود الى مضمون بيان رؤساء الحكومات السابقين الثلاثة. فالبيان الذي صدر أمس تم تأجيله غير مرة. ولم يتفهّم كثر معناه ومراميه حتى بعد صدوره، إلا في حال كان منتظراً، وانّ القضية قضية وقت. ومن يستند الى هذه النظرية يكفيه الظن في أنّ «الثنائي الشيعي»، ورغم ما حصل في الأيام الماضية، بقي مصرّاً على أن يكون الحريري رئيساً مكلفاً لتأليف الحكومة الجديدة، ولكن بشروطهم، وفي حال العكس عليه ان يمحض دعمه الكامل للخطيب في بيان مكتوب. وفي اعتقادهم ان يكون هذا البيان بمثابة وثيقة لا نقاش فيها ولا يمكن التنكّر لها في أي لحظة. وهو ما لم يحصل حتى خلال الاجتماع الليلي الذي جَمع موفدي الثنائي الوزير علي حسن خليل وحسين الخليل بالحريري بعدما رَهن الحريري موقفه النهائي والحاسم بالدعوة الى الإستشارات النيابية الملزمة.
وبناءً على ما تقدّم، يمكن القول صراحة إنّ من ينتظر من الحريري بياناً لن يصدر عنه، وعليه العودة فوراً الى مضمون بيان الرؤساء الثلاثة السابقين للحكومة، والذي شكّل باعتراف ألد الخصوم مناسبة لطرح السؤال عما إذا كان ينسحب في شكله ومضمونه على أيّ بيان يمكن ان يصدره الرئيس الحريري بنفسه، قبل السؤال عن مضمون بيان آخر يطلب من دار الفتوى أو أي مرجعية سنية أخرى. فإشارة البيان الى مجموعة الخروقات الدستورية، والتي شملت بالإضافة الى أداء رئيس الجمهورية وفريقه كما الرئيس المرشح للتكليف الذي «يقبل بالمشاركة» في «استشارات حول شكل الحكومة وأعضائها قبل تكليفه وبالخضوع لاختبار من قبل لجنة فاحصة غير مؤهّلة ولا مخوّلة دستورياً»، إنما يساهم أيضاً «في خرق الدستور، وفي إضعاف موقع رئيس مجلس الوزراء وضربه».
على كل حال وبمعزل عن البحث ممّا يمكن ان يتخذه الخطيب من خطوات تلي هذا البيان، فإنّ الجواب الأهم يكمن في ما سيكون عليه قرار الحريري الذي ربط موقفه النهائي بالدعوة الى الإستشارات النيابية، فكانت الدعوة العاجلة الصادرة عن قصر بعبدا عصر أمس. وبالرغم من وجود ما يكفي من الأسباب الداخلية التي تعوق خروج لبنان من مسلسل المآزق التي تتناسل واحدة بعد أخرى، لا يمكن تجاهل ما يجري في المنطقة من تحولات كبرى لم يفهم بعد ما سيكون انعكاسها على لبنان ونصيبه منها. فإلى الوضع في العراق وسوريا واليمن هناك مشاريع المصالحات الجارية في الخليج العربي بين الرياض والدوحة وما بينهما ابو ظبي، سعياً الى ترميم العلاقات بين قطر والدول الأربع التي تحاصرها ليس أمراً يعني الخليج فحسب، وطالما أنّ لطهران حصة في ما يجري هناك، يعني انّ بيروت معنية أيضاً. ولذلك، وقبل ان تحسم المعالجات الجارية هناك، سيبقى لبنان معلقاً على حبل الانتظار الى مرحلة ليس من السهل توقّعها من اليوم، وهو ما يعني انّ الصفقة الحكومية باقية على النار الى أن تتوضّح الصورة، وبالتالي لتكون من آخر الصفقات المنتظرة.