هل للسعودية فعلاً دور سياسي أو عملاني أو لوجستي في دعم هذا الحراك الشعبي اللبناني؟ وإذا كان لها مثل هذا الدور لماذا تغيب سياسياً وديبلوماسياً عن هذا المشهد اللبناني الجديد الذي يرجّح أن يغيّر في المعادلات السياسية الداخلية، التي يتعارض بعضها مع سياسة المملكة ومصالحها في لبنان؟
هذان سؤالان من أسئلة كثيرة يطرحها هذا الفريق أو ذاك، أو هذه الجهة اللبنانية او تلك، حول ابتعاد الرياض عما يجري من حراك شعبي يبدو انه سيستمر الى أن يؤتي أُكله هذه المرة على عكس كل الحراكات السابقة، إذ لم يسجل لأيّ مسؤول في المملكة، او للسفير السعودي وليد البخاري إعلان اي موقف من بداية الحراك واستقالة الحكومة وحتى الآن.
يقول مطلعون على الموقف السعودي انّ المملكة تعتبر انّ الحراك الشعبي اللبناني داخلي لا ينبغي لها ولا لغيرها أن تتدخل فيه، فهو يخص اللبنانيين ومستقبلهم قبل الآخرين، فضلاً عن أنه حراك شعبي خرج الى الشارع مطالباً بلقمة العيش وإنهاء الفساد، ومعبّراً عن نقمة عن أداء النظام والقوى السياسية التي بممارساتها تتحمّل المسؤولية عما آلت اليه أوضاع البلاد.
فالمملكة، يقول هؤلاء، لا يمكن ان تتدخل في هذا الشأن الداخلي البحت، كما انها لا تستطيع ان تقف ضد مطالب شعب يطمح الى حياة حرة كريمة، خصوصاً انها تلتزم مساعدة لبنان منذ ايام الملك المؤسس عبد العزيز الذي قال يوماً: «لبنان قطعة منّا، وأنا أحمي استقلاله بنفسي ولن أسمح لأي يد ان تمتد إليه بسوء».
ويضيف المطّلعون على الموقف السعودي، وبعضهم ديبلوماسي، أنّ المملكة، وعلى رغم انها تعتبر انّ البعض يستخدم لبنان «منصّة عدائية» ضدها، ستستمر في دعمها لهذا البلد، وليست في وارد تجاهله أو ترهيل العلاقات اللبنانية ـ السعودية. ففي الشهر الماضي كانت الرياض ستوجّه دعوة رسمية الى رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري لزيارتها، حيث كانت ستجتمع اللجنة العليا اللبنانية ـ السعودية هناك وتنتهي الى توقيع 17 اتفاقية بين البلدين في مختلف المجالات كان يجري التحضير لها منذ نحو سنتين، ولكن ما يشهده لبنان منذ 17 تشرين الاول الماضي واستقالة للحكومة عَطّل كل هذه الخطوات وترك مصيرها مرهوناً بما سيؤول اليه الوضع الداخلي.
ويقول هؤلاء انّ الوضع السائد يتحمل تبعاته الجميع من مسؤولين وقوى سياسية مشاركة في السلطة او غير مشاركة، وانّ الرياض كانت قد أبلغت اليهم منذ حصول التسوية الرئاسية انها تؤيّد ما يُجمِع عليه اللبنانيون ولن تتدخل فيه، وانّ عليهم أن يتحمّلوا المسؤولية في كل ما ينتج عن هذه التسوية، سواء كان الامر سلبياً او ايجابياً، علماً انها، اي المملكة، كانت في تواصلها مع المسؤولين والقيادات اللبنانية في الرياض او في بيروت تحذّر من الوصول الى الأزمة التي تعيشها البلاد الآن، وتدعو الى توقف الخلافات والمناكفات بين القوى السياسية التي تنعكس سلباً على أوضاع لبنان المالية والاقتصادية، وتعطي صورة سيئة عنه خارجياً بما يدفع المستثمرين الى الهروب منه او الاحجام عن الاستثمار فيه. وهي على رغم من ذلك اعادت رعاياها، هي ومعظم دول الخليج، الى هذا البلد في خطوة تساهم في دعم الاقتصاد اللبناني، وتعزز الثقة العربية الدولية به.
وكذلك يشير هؤلاء المطلعون الى «انّ السعوديين يسألون الآن عما سيؤول اليه الوضع اللبناني بعد استقالة الحريري؟ وعن ماهية الحكومة الجديدة ومدى قدرتها على معالجة الازمة التي يخشى ان تتفاقم وتزداد خطورة خلال الاشهر الثلاثة المقبلة؟».
ويقولون: «انّ الرياض غير مستقيلة من دورها اللبناني، ولكنها وفي خضمّ كل ما تعرضت له ولا تزال لم تسمع من أحد كلمة تضامن معها في كل ما تواجهه ولو على سبيل الانسجام مع علاقات الاخوة العربية التي تربط بينها وبين لبنان، إلا أنها رغم ذلك غير متوقفة طويلاً عند هذا الأمر الذي لن يدفعها الى الابتعاد عن هذا البلد الشقيق، علماً انّ البعض يطلب منها الآن التدخّل والمساعدة على إنتاج حلول للأزمة إنطلاقاً من كونها مفوّضة عربياً رعاية تنفيذ «اتفاق الطائف» الذي أقرّه النواب اللبنانيون في مؤتمرهم الذي انعقد لشهر في مدينة الطائف.
لا تتدخل الرياض في ما يجري الآن على مستوى الحراك الشعبي، وتحبّذ أن يبقى كما كان في ايامه الأولى بعيداً عن اي تدخل سياسي داخلي او خارجي حتى لا يواجه مصير الحركات السابقة.
فهذا الحراك، اذا نجح، سيساهم في بناء لبنان الجديد، إذ على القوى السياسية ان تدرك انّ الفتيان والشبّان اليافعين الذين يتحركون في الشارع ويلاقون الصد او العدائية ضد شعاراتهم من السلطة او من هذه الجهة السياسية او تلك، سيكونون بعد سنين قليلة ناخبين، وسيكون تصويتهم للبنان الذي ينادون به الآن لا لبنان الذي يحرص بعض من في الطبقة السياسية القائمة على تكريسه لحماية ما لهم فيه من مصالح سياسية وشخصية هي إحدى المسبّبات الرئيسية للأزمة التي تهدّد بانهيار البلد سياسياً واقتصادياً ومالياً.
ولا يتوقف السعوديون، حسب المطلعين على موقفهم، عند استقالة الحريري في أسبابها والخلفيات. وسواء قرّر العودة الى رئاسة الحكومة او أصرّ على عزوفه المُعلن، فإنهم لا يتوقفون عند الاسماء المرشحة او التي ترشح لتولّي رئاسة الحكومة. إلا أنهم يرون، في مكان ما، انّ الحريري رشّح ويرشّح بعض الاسماء المقبولة لخلافته، لكنّ الآخرين يسارعون الى إحراقها، وكان الوزير السابق محمد الصفدي مثالاً، حيث اعلنه الوزير جبران باسيل رئيساً للحكومة، قبل ان يبلغ الحريري اسمه الى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون.
ما يهمّ السعوديين، في رأي المطلعين على موقفهم، هو تشكيل حكومة فاعلة تتصدى للأزمة وتعالجها، وهم لا يتوقفون عند تسميتها بـ«التكنوقراط» او «التكنو- سياسية»، وإنما من باب النصيحة، وليس من باب التدخل في هذا الشأن الداخلي اللبناني، أن تكون هذه الحكومة ذات صلاحيات استثنائية تمكّنها من اتخاذ خطوات سريعة وفعالة لإنقاذ البلاد من الانهيار.
مثل هذه الحكومة أيّد تأليفها مداورة الامين العام المساعد لجامعة الدول العربية حسام زكي الذي زار لبنان موفداً من الامين العام احمد ابو الغيط، وسمّاها «حكومة مسؤولة» عندما قال: «لبنان لن يترك وحيداً، ومساعدته تتم على قدر استعداده للتجاوب».
وتابع: «انّ الصناديق العربية مستعدة للمساعدة، ولكن ينبغي ان تكون هناك حكومة مسؤولة، فتشكيل الحكومة أساس في كل هذا المسعى». وأضاف: «العبء الاكبر يكون على اللبنانيين أنفسهم لأن هذا هو بلدهم وهذه الاوضاع تخصّهم في المقام الاول، وما الخارج سوى داعم لما يحصل في الداخل من محاولات لإيجاد حل ولتسوية أي أزمات».
في المحصّلة، لا يبدو انّ هناك اي حراك عربي تجاه لبنان الّا من خلال جامعة الدول العربية، فالنظرة إليه الآن متشائمة ولكنها لا تفقد الامل من إمكانات المعالجة، على رغم انّ البعض يتوقع ان تتفاقم الازمة الاقتصادية والمالية في قابل الايام والاسابيع، وبين السطور هناك من يسأل: من يسقط أولاً من القوى السياسية المتنازعة بنتيجة هذه الأزمة؟
وبناء على الجواب عن السؤال المنتظر بروزه في وقت ليس ببعيد، يتحدد مصير لبنان ومستقبل علاقاته العربية والدولية، وستكون الحكومة التي يعمل على تأليفها الآن بدءاً بالتكليف، المؤشّر على ما سيكون عليه ذلك المصير.