ستطول الأزمة اللبنانية في ظل وضع اقتصادي على شفا الانهيار من جهة، وفي غياب من هو قادر على استيعاب متطلبات المرحلة الراهنة داخليا، إضافة إلى المعطيات العربية والدولية من جهة أخرى. هناك، فوق ذلك كلّه، ثورة شعبية في لبنان في حاجة إلى من يفهم مغزاها على أعلى المستويات، بدل الاستمرار في حال الإنكار للواقع والتنكر له.
مؤسف أن يكون هذا هو الواقع اللبناني، ومؤسف أكثر أن يكون هناك من يرفض التعاطي، على نحو عملي، مع هذا الواقع المتمثل في الحاجة إلى حكومة تكنوقراط قادرة على إقناع العرب والعالم بأنّ لبنان تغيّر. لا حاجة إلى عباقرة للاقتناع بأنّ أحدا لن يهبّ إلى مساعدة لبنان، أقلّه، من أجل تمرير المرحلة الراهنة بأقلّ مقدار من الخسائر، في حال بقي البلد أسير إيران وسياساتها وأدواتها وأدوات أدواتها. هذا بكلّ صراحة. على من يدعو العرب إلى مساعدة لبنان عن طريق وديعة أو ودائع في البنك المركزي (مصرف لبنان)، لا تتجاوز قيمتها ثلاثة أو أربعة مليارات دولار، الاقتناع أوّلا أن هذا لن يحصل ما دام “حزب الله” أو أدواته في الحكومة. ليس مقبولا أن يكون لبنان خنجرا إيرانيا يطعن العرب، خصوصا أهل الخليج، في الظهر. هل لبنان بلد عربي أم لا؟ هل هو قاعدة إيرانية أم لا؟ هل هو حرّ مستقلّ أم لا؟
قبل الكلام عن وديعة عربية في مصرف لبنان، من الضروري التساؤل لماذا يتنطح الأمين العام لـ”حزب الله” وغيره لمهاجمة المملكة العربية السعودية ودول عربية أخرى بوقاحة ليس بعدها وقاحة؟ أكثر من ذلك، هل طبيعي أن تكون بيروت المدينة الثانية، من حيث الأهمّية، سياسيا وإعلاميا، لحركة مثل حركة الحوثيين في اليمن؟
لا يقتصر الأمر على الحوثيين الذين يسمّون أنفسهم “أنصار الله”، بل هناك حركات كثيرة تُعتبر أدوات إيرانية اتخذت من بيروت قاعدة لها بغطاء من “حزب الله”، أي من إيران. يذكّر ذلك بتلك الأيّام التي كان الفلسطينيون يسيطرون فيها على جزء من بيروت. حوّلوا وقتذاك، أي قبل العام 1982، لبنان وعاصمته بالذات قاعدة لمنظمة “بادر ماينهوف” الألمانية المتطرّفة أو لـ”الجيش الأحمر” الياباني أو لـ”الجيش السرّي الأرمني” الذي كان في واقع الحال يعمل في خدمة الأجهزة السورية في الحرب غير المعلنة الدائرة مع تركيا…
هل هذا لبنان المطلوب أن يساعده العرب؟ على من يطلب مساعدة العرب من أجل إنقاذ الاقتصاد اللبناني، أو لإعطاء هذا الاقتصاد فسحة أمل يتنفس خلالها ولو لفترة قصيرة، التفكير مليّا في ما آل إليه البلد في “عهد حزب الله”. هناك قناعة عربية وأميركية وأوروبية بأنّ لبنان يعيش في مثل هذا العهد. أخطر ما في الأمر أن في واشنطن مدرسة سياسية بدأت تقول أن ليس مهمّا ما يحلّ بلبنان، وأن على اللبنانيين أن يتدبّروا أمورهم بأنفسهم. في النهاية هل يستطيع لبنان الانتصار على الدولار الذي هو السلاح الأميركي الأقوى؟ هل يستطيع لبنان إثبات أنّه لا يزال يسيطر على كلّ أراضيه سيطرة كاملة، وأن كلّ كلام عن “المقاومة” ليس سوى تغطية لواقع عنوانه السيطرة الإيرانية على البلد؟
بكلام أوضح، يُفترض في “حزب الله” الاقتناع بأنّه أوصل لبنان إلى عزلة عربية… وإلى وضع أدّى إلى فرض عقوبات على المصارف اللبنانية، أو أقلّه فرض رقابة شديدة عليها. هذا ما أدّى، بين أسباب أخرى مثل حاجة السوق السورية إلى الدولار، إلى الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها المصارف اللبنانية ومصرف لبنان من أجل تفادي الانهيار الكامل. هذه إجراءات في غاية الخطورة على النظام المصرفي اللبناني الذي تميّز تاريخيا بحرية إيداع الأموال فيه وسحبها متى شاء صاحب المال، بغض النظر عن المكان الذي يقيم فيه.
كان البنك اللبناني – الكندي الذي شُطب من لائحة المصارف اللبنانية الإنذار الأوّل. من لم يفهم معنى الإجراءات التي اتخذتها أميركا في حقّ البنك اللبناني – الكندي، رفض أن يفهم لاحقا الرسالة الثانية، بين رسائل أخرى، والمتمثلة في العقوبات على جمّال تراست بنك. وهذه عقوبات جمّدت نشاطات هذا المصرف.
يتلخّص الموضوع الأساسي في لبنان بسؤال قصير؟ هل من مخرج من الأزمة الراهنة؟ يصعب الكلام عن مخرج في غياب من يستوعب خطورة الوضع والحاجة إلى الذهاب فورا إلى حكومة تكنوقراط وليس إلى حكومة تتمثّل فيها الأحزاب، خصوصا “حزب الله”.
لا وجود لمخرج آخر للبنان في حال كان مطلوبا إنقاذ ما يمكن إنقاذه. لن يقتنع أي طرف عربي بأنّ لبنان بلد حرّ عربي مستقل في غياب مثل هذه الحكومة، بعيدا عن الكلام الفارغ عن “المقاومة” والحاجة إليها. ليس هذا الكلام سوى تبرير، لا يقبله أي عربي، لبقاء لبنان تابعا لما يسمّى “محور الممانعة”، أي أسير إيران. أين مصلحة لبنان في ذلك؟ لا مصلحة له في ذلك بأي شكل من الأشكال. هذا يعود لسبب بسيط نظرا إلى أنّ لا فائدة من إيران التي لم تصدّر إلى لبنان سوى ميليشيا مذهبية وصلت في العام 2014، بالتزامن مع سيطرة الحوثيين على صنعاء، إلى إغلاق مجلس النوّاب لمنع انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية. بقي مجلس النواب مغلقا سنتين ونصف سنة إلى أن انتخب مرشّح “حزب الله” رئيسا للجمهورية.
مرّت قبل أيّام الذكرى الـ50 لتوقيع اتفاق القاهرة المشؤوم، كذلك مرّت الذكرى الثالثة لبداية “عهد حزب الله”. لا شكّ أن الصيغة اللبنانية صلبة. لو لم يكن الأمر كذلك، لما كان بقي هناك بلد من أيّ نوع بعد نصف قرن على اتفاق القاهرة الذي جلب كلّ المصائب على لبنان. صمد لبنان طويلا، لكنّ صموده لم يعد مضمونا في ظلّ “عهد حزب الله”. هذا ما يدركه المواطنون العاديون الذين نزلوا إلى الشارع منذ السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر الماضي بعدما أوصلهم “عهد حزب الله” إلى مرحلة اليأس من كلّ رجال الطبقة السياسية. الأكيد أن الوضع ليس سهلا في لبنان، لكن الأكيد أيضا أن هناك حاجة إلى من يتحمّل مسؤولياته وأن يقول الأمور كما هي، وأن يثبت أن مستقبل البلد يهمّه وأنّ لبنان ليس مجرد مستعمرة إيرانية.
لا حاجة إلى عبقرية زائدة لإثبات ذلك، بمقدار الحاجة إلى الاقتناع بأن الأمل الوحيد للبنان، هذا إذا كان هناك أمل، هو حكومة تكنوقراط تحترم نفسها تستطيع إقناع العرب القادرين، وعبرهم أميركا أن شيئا ما تغيّر في العمق في الوطن الصغير، حيث ثورة حقيقية، وأن لبنان يستحقّ بالفعل الحياة.