تشكل سورية نقطة حيوية بالنسبة لروسيا في الحرب الجيو-سياسية الجديدة التي تخوضها مع الولايات المتحدة خصوصاً بعد العقوبات الاقتصادية والمالية الذي فرضها الغرب عليها بعد محاولتها التضييق على اوكرانيا والهيمنة على نظامها السياسي التي تعتبرها العمود الفقري لروسيا ولمشروع الاوراسيا.
ومن هنا اتجهت الانظار الروسية نحو سورية من اجل العمل على احداث تغيير في المعادلة الدولية ولعب دورا جديدا في المنطقة العربية ومن البوابة السورية هذا من جهة ومن جهة اخرى محاولة المقايضة بالملفات، دخلت روسيا الى سوريا بتفويض دولي وبتصريح من البرلمان الروسي "الدوما" لمدة اربعة شهور لكي تحسم الملف السوري لكن المدة تخطت تصريح الدوما واصبحت طويلة ولاسيما في ظل غياب أي افق في اطار التسوية السياسية.
الجميع يعرف بان الاكتشافات الجديدة للغاز والنفط في دول شرق المتوسط فتح شهية الجميع وخاصة روسيا القيصرية من اجل السيطرة على منابع الموارد الطبيعية التي تشكل عصب الاقتصاد العالمي ، الامر الذي دفع بروسيا لقضم جزيرة القرم والتوجه نحو سوريا لكونها تعتبر نفسها القوة العظمى في مجال الطاقة والغاز اي بمعنى انها معركة "الانابيب الحمراء" التي لا تزال تشكل صلب الصراع في التسوية السرية المفقودة في سوريا .
روسيا غرقت في الوحل السوري بغياب رؤية استراتيجية لطبيعة الحل السياسي والدور القادم لموسكو فيها، وهذا ما دفعها للتمسك بالنظام السوري الحالي لكونها ترى باستمراريته يؤمن لها استمرارية النفوذ المطلوب في دولة سيطرت عليها اشباح الحرب ، مما دفع بالكرملين لتبني نظرية التعامل مع " الإضداد" المتصارعة في سوريا والاحتفاظ بالموقع الجيو-سياسي ضمن خطة مواجهة مع الولايات المتحدة في العالم بشكل عام وفي الشرق الاوسط بشكل خاص.
قدمت روسيا نفسها على عكس توجهات الولايات المتحدة الامريكية التي بنت نظريتها في التعامل مع الاخرين وفقا لمبدأ جورج بوش الابن الذي صنف العالم الى معسكرين لذلك اطلق مقولته الشهيرة بانه من ليس معنا فهو ضدنا.
فروسيا اعتمدت فلسفة الليبرالية في التعامل مع الاطراف واستيعاب الجميع وكذلك التحدث مع الجميع دون فيتو وفقا لمصالحها الخاصة.
فهذه السياسية المتبعة سمحت لروسيا اقامة علاقات واسعة مع الاضداد بغض النظر عن الاختلافات والتوجهات الضيقة لهذه المكونات.
روسيا تحاول التحدث مع الجميع وايجاد صلات مع جميع المتناقضات المتناحرة، فكانت وماتزال تمسك عصا الحل في سوريا من الوسط، وبالرغم من موقف روسيا المبهم لطبيعة العلاقات بين الحليفين المتنافسين الذي يزاد صعوبة في تحليل الصورة السورية تبقى ايران من يعزز وضعها الميداني في جنوب سوريا ، بالرغم من كل الضغوطات التي تفرض نفسها على ايران ، فايران تعزز وجودها في الجنوب السوري.
وبهذا المشهد تبقى الصورة غامضة ومبهمة من قبل الدولة الروسية في كيفية التعامل مع الوجود العسكري الايراني الذي لا تزال روسيا بأمس الحاجة اليه في تنفيذ عملياتها الحربية وخاصة بعدم التمكن من حسم المعركة في ادلب وريف حماة لغياب العنصر الايراني الميداني عن المعارك تبقى الصورة معقدة جدا وتدخل في زواريب خاصة تحاول روسيا تصوير نفسها بانها القوة المركزية في عاصمة الامويين وصاحبة القرار السياسي وقرار الحل القادم ، بالرغم من ان الامور تنذر بالتعقيد والصراع القادم لحماية المصالح والنفوذ الخاصة للحليفين بظل تصاعد الاشكالات اليومية والسباق على الاستحواذ على عقود اقتصادية في سورية .
لقد نسقت روسيا دخولها الى سوريا مع المتناقضات فكان الطلب الايراني ساعد على التدخل العسكري الروسي لمصلحة النظام حيث ظهرت صورة التنسيق في الميدان العسكري بين الحلفاء اثناء المعارك والتطهير والتنظيف من ناحية ومن ناحية اخرى الدعم في مجلس الامن والمحافل الدبلوماسية في التفاوض وايجاد المنصات الاعلامية المختلفة لدعم الحملة الروسية والايرانية.
ومن جهة اخرى بات التنسيق الروسي واضحا بين دولة الكيان الصهيوني حيث بات قادة العدو يذهبون الى موسكو بصورة مستمرة حيث زارها نتانياهو١١ مرة منذ التدخل العسكري الروسي لسوريا حيث بات التنسيق واضحا في زيارة نتانياهو في ٢٦ ايلول ٢٠١٥ وقبل الذهاب الى جلسة مجلس الامن حيث نزل ضيفا لمدة ٦ ساعات على الرئيس بوتين واعطى الضيف الاشارة الايجابية لدخول موسكو الى سوريا ولكن بشروط ثلاثة التزمتها روسيا حتى اللحظة وهي:" عدم فتح جبهة الجولان وعدم تسليم سلاح روسي حديث للجيش السوري في سوريا، واقامة غرفة تنسيق بين قاعدة حميميم وتل ابيب برئاسة نائب رئيس الاركان في كلا الدولتين.
التزمت موسكو بهذه الشروط خلال اربع سنوات وبل اكثر من ذلك من خلال النظر لمجريات الاحداث.
لكن الحدث الاخير في قمة القدس ادخل اسرائيل على خط الازمة السورية وطريقة حلها من الباب الروسي بطريقة مباشرة بعدما كانت تل ابيب لاعبا في الظل وكأن روسيا تحاول ايجاد منصة جديدة ترضى الولايات المتحدة من خلال فرض القمة الثلاثية في القدس المحتلة بين (الولايات المتحدة وروسيا والكيان الصهيوني) تحت عنوان اخراج ايران وميلشياتها من سوريا رغم محاولة مسؤول الامن القومي الروسي بتروشيف تشريع الوجود الايراني والدفاع عن ايران .
لكن في الحقيقة موسكو تنافس واشنطن وديا لحماية امن الكيان الصهيوني بحجة ثلث الكيان هم مواطنون روس ويحملون الجنسية الروسية.، والتهدئة مع الكيان يساعد موسكو على بلورة حل سياسي يمكنها من لعب دور ريادي في المنطقة.
وفي تحليل سريع للخطوات الروسية فإننا امام تحول سريع في العلاقات الروسية- الايرانية بسبب الصراع على النفوذ الذي كان اخرها محاولة السيطرة على الاجهزة الامنية السورية من الطرفين وتشكيل الالوية والوحدات السورية التابعة لكل طرف من الطرفين .
اضافة الى الصراع البارز بينهما للسيطرة على العقود الاقتصادية السورية" كالمرافئ والمطارات وشركات تنقيب الغاز ، والسيطرة على المناطق التي تتميز بثروات طبيعية" .
فالخلاف الروسي الايراني في سورية يكمن حول طبيعة العلاقات القادمة بين الحليفين، فالضمانات التي تقدمها موسكو لطهران في رعاية مصالحها الاقتصادية ونفوذها الاقليمي غير واضحة المعالم وغير كافية ، لذلك لم يتفق عليها مع الاخرين للدخول في التسوية القادمة.
ولكن من المؤكد بان الروس لن يقبلوا بإيران شريكا منافسا في مجال الطاقة وتصديرها للدول الاوروبية والغربية مهما كلف الامر، وهذا الخلاف الباطني يزيد من تسعير الخلاف القادم بينهما، وخاصة بان روسيا تعلم جيدا بان ايران بحاجة لها حاليا في ظل المواجهة المتسارعة مع الولايات المتحدة والغرب نتيجة الحصار والضغط والحصار الاقتصادي ، مما يجعل روسيا اقرب الى فرض شروطها مستغلة هذا الوضع لكي تحقق تقارب مع امريكا .