في اعتقاد المطلعين أنّ الولايات المتحدة لم تعاقب لبنان مالياً حتى الآن. هي فقط عاقبت مصارف ومؤسسات وشركات وجمعيات محدَّدة، تعتبر أنها محسوبة على «حزب الله» أو تشاركه أعماله المالية. وأما الدولة اللبنانية والقوى اللبنانية الحليفة لـ«الحزب» فهي حتى الآن تحظى بالتساهل والرعاية. وحتى الـ105 ملايين دولار المخصصة للجيش جمّدت موقتاً لضرورات الأزمة القائمة حالياً، وستعود.
ولكن، هذا لا يعني أنّ مؤسسات الدولة وحلفاء «الحزب» سيبقون في منأى عن الضغوط، إذا استمرّ النهج الحالي من دون تغيير، أي إذا لم يفكّ الارتباط بين القرار الرسمي ونفوذ «الحزب».
وهناك مَن يراهن على أنّ المفاوضات غير المباشرة التي تجريها الولايات المتحدة، عبر فرنسا وبريطانيا، مع «حزب الله»، من شأنها أن تحدِّد السقوف التي يرضى بها الجميع.
فالسقف الفرنسي قريب من «الحزب» ولكنه بعيد عن واشنطن. ولذلك، عمد البريطانيون إلى تحديد سقف جديد، بتشجيع أميركي. وقد ينجحون في تسويق تسوية مَرنة تحافظ على دور لـ«حزب الله» في الحكومة، وفي السلطة عموماً.
وعلى الأرجح، لا يرمي الأميركيون إلى خنق «الحزب» نهائياً وعزله عن الحياة السياسية، وهم يدركون الرصيد الذي يتمتع به، على الأقل في بيئته. وما يعنيهم هو ألا يسيطر على قرار الحكومة، بحيث يكون لبنان جزءاً من منظومة إيران في الشرق الأوسط.
ويعتقد المواكبون أنّ واشنطن لن يزعجها قيام تركيبة حكومية يشارك فيها «الحزب» وحلفاؤه. لكن المهم أن يكون تمثيلهم محدداً ومحدوداً، وأن تكون الفاعلية للمستقلين. وفي هذه الحال، لا يكون نهج الحكومة الآتية استمراراً لنهج الحكومة الحريرية المستقيلة.
إذا نجحت هذه الفكرة، فستشهد المرحلة الآتية انفراجات واسعة في لبنان، برعاية أميركية وأوروبية. وطبعاً سيكون العرب حلفاء واشنطن في الصورة لا خارجها. وهذا ما يؤدي إلى تحقيق ارتياح سياسي ومالي واقتصادي. وستكفي بضعة مليارات آتية إلى المصرف المركزي من ضمن مجموعة «سيدر» أو خارجها، لتعويم الثقة بمالية لبنان وقطاعه المصرفي، ما يؤدي إلى انفراج مفاجئ خلال فترة قصيرة.
وللتذكير، فإنّ السفير جيفري فيلتمان قال في مداخلته الشهيرة أمام مجلس النواب قبل أيام: إنّ ديون لبنان الخارجية للبنان، بأكملها، (نحو 35 مليار دولار) تتماشى وتقديرات ما تنفقه المملكة العربية السعودية كل عام على حرب اليمن (25-40 مليار دولار).
ومعنى ذلك أنّ لبنان، البلد الصغير، يمكن أن يغرق أو يعوم «بحفنة من الدولارات» (بالمعنى المجازي طبعاً). واقتصاده الصغير قادر على تجاوز المأزق بمجرد استعادة الثقة. وهذه إشارات ينبغي أن يتلقاها ذوو الشأن في لبنان، وتحديداً القوى المعنية بالسلطة.
ويمكن أن يقوم «حزب الله» باستثمار هذه الميزة اللبنانية لدخول المرحلة الجديدة بالشراكة مع الحصان الرابح، الديناميكي، أي الانتفاضة، لا الحصان الذي يحتضر والذي لا أمل في ضخّ الحياة فيه.
وهذا يعني ملاقاة الانتفاضة في حربها على الفساد وبناء دولة حديثة نظيفة. وهذا هو اللبّ الحقيقي للانتفاضة وهدفها، ولا شيء آخر.
ربما أدرك الحريري أصول اللعبة التي تحضّر، فأعلن انسحابه من الحلبة. وهذا مؤشر إلى أنّ الوساطة البريطانية تحمل مضموناً جدياً. والأرجح أنها ترضي واشنطن. وفي المبدأ، «حزب الله» كذلك. فإذا حصل هذا التقاطع ستكون التسوية وشيكة.
ثمة من يراهن على أنّ «الحزب» سيفعل. فلا مجال لإضاعة الوقت أو الفرص. لكن بعض المشككين يقولون: إنّ اعتبارات الصراع العنيف الذي تخوضه إيران مع الولايات المتحدة على رقعة الشرق الأوسط قد تمنع «الحزب» من التنازل سياسياً، ولو بحدودٍ ضيقة، في لبنان.
إذا كان ذلك صحيحاً، فسيعني أنّ هناك تصعيداً أميركياً منتظراً في نهج «المعاقبة» لا ضد «حزب الله» وحده، بل ضد لبنان بأسره. فنظرية «التشدُّد المطلق» ستصبح راجحة في واشنطن. وسيؤخذ لبنان كله في جريرة «الحزب».
وسيكون مستحيلاً الرهان على دور لواشنطن في حماية استقرار لبنان المالي، ما يرفع منسوب المخاطر بقوة من انهيار لبناني شامل. وبالتأكيد، لا يستطيع لبنان أن يحافظ على استقراره يوماً واحداً إذا اتخذت واشنطن قراراً بمعاقبة من هذا النوع.
وللتذكير أيضاً، اتخذ الأميركيون أخيراً، وفي ذروة التأزم المصرفي والمالي في لبنان، قرارات تحول دون محاكمة مصارف لبنانية في نيويورك. وهذه أيضاً رسالة لها مغزاها.
إذاً، فالانهيار المالي اللبناني هو اليوم قرارٌ يتخذه اللبنانيون، وتحديداً «حزب الله» وحلفاؤه في الحكم. فهم قادرون على تجنّبه أو على الغرق فيه. فهل يُلجَم الانهيار في اللحظة الأخيرة؟
هذا الأمر يبدو حيوياً لمنع السقوط في الفوضى الشاملة. وبعد ذلك سيكون لكل حادثٍ حديث. وأول الأحاديث هو أن يعيد حيتان المال والسياسة ما نهبوه، وأن يُمنَعوا عن مواصلة النهب. وهنا يبدأ العمل الحقيقي.