هذا الواقع ليس في إمكان أيّ من أطراف الأزمة أن يتجاهله وينكره أو يهرب منه؛ البلد يسقط اقتصادياً ومالياً، وصار استقراره مهدداً على كلّ المستويات، فيما ساحة المعركة تراوح بين حراك شعبي فشل في إحداث التغيير المطلوب وترجمة ما أطلقه من مطالب وشعارات، وطبقة حاكمة ثابتة على سلوكها، لا بل فشلت في تقديم ما يقنع المحتجين، ومعهم الشريحة الواسعة من اللبنانيين، بأنّها في صدد تغيير جدّي لسلوكها الذي أشعل الحراك.
يحلو لكثيرين القول بأنّ ما بعد 17 تشرين الاول 2019 ليس كما قبله، وانّ ثمة تغييراً قد حصل، وثمة من يقول انّ الحراك انتصر وفرض نفسه في وجه سلطة ينخرها السوس في كلّ مفاصلها (!!!)، وأيّ حكومة جديدة ستتشكل بعده لا تستطيع إلّا أن تأخذه في الحسبان. وطبعاً هذا الكلام يدغدغ مشاعر القائمين بالحراك، ولكن أيّ انتصار ملموس تحقّق؟ وما الذي تغيّر على أرض الواقع؟
الواقع يقول بصراحة مطلقة يلمُسها كلّ اللبنانيّين من دون استثناء، أن لا الحراك تقدّم، ولا الطبقة الحاكمة قدّمت، وبالتالي فإن المتغيّر الوحيد الذي حصل هو أنّ الأزمة ازدادت تعقيداً. هذا هو واقع الحال، الذي بدأ يبعث في نفوس الناس ما هو أسوأ من الملل من واقع يبدو الحراك فيه في مأزق، والسلطة في مأزق، وصار ينبغي التفتيش عن طرف ثالث يخرجهما من المأزق!
يقابل ذلك مشهد سياسي متأرجح بين مزاجية من هنا، وكيد من هناك، وطروحات متصادمة من هنا وهناك، معظمها - حتى لا نقول كلها - غير قابله لأن تجد قبولاً لدى الآخر، ما يبقي الاستشارات الملزمة لتكليف شخصية لتشكيل الحكومة الجديدة معلقة على هذا الحبل الى ما شاء الله. إلّا اذا نجحت المحاولات الحثيثة الجارية على قدم وساق لإخراج حلّ ما من القمقم، يضع البلاد على سكة الانفراج الحكومي.
الكباش لم ينته بعد حول شكل الحكومة، تكنوقراط كانت او تكنوسياسية، ويبدو في النقاش الجاري في الغرف المغلقة، أنّ كفّة الثانية قد أصبحت مرجّحة أكثر، وعلى هذا الاساس تنصبّ جهود الحلحلة، التي تجدّدت في الساعات الاخيرة، بشراكة كاملة من قبل «الثنائي الشيعي»، الذي لم يقطع الأمل بعد في إمكان اقناع الرئيس سعد الحريري بالعودة الى رئاسة الحكومة والشراكة معاً في إنهاض البلد من أزمة تهدّد استمراره، ورهانه أنّ تفضي المفاوضات مع رئيس الحكومة المستقيل الى توافق على حلّ سريع - إذا أمكن خلال الأسبوع الجاري - يفرمل الانهيار المتسارع في البلد. ولكن حتى الآن لم يتصاعد الدخان الابيض من مدخنة بيت الوسط، واوساط «الثنائي» تؤكد انّ الباب لم يقفل والاحتمالات الإيجابية ممكنة.
وبالتوازي مع مفاوضات الحلحلة، يبرز الحضور الاوروبي المتجدد على الخط الحكومي، ومن قبل بريطانيا تحديداً، عبر زيارة سريعة ليوم واحد يقوم بها مسؤول رفيع في الخارجية البريطانية الى بيروت، ربما اليوم، وهناك من ذكر اسم مدير الدائرة السياسية في وزارة الخارجية البريطانية ريتشارد مور، يجري خلالها محادثات مع الرؤساء الثلاثة على وجه التحديد. لعلّ هذه المحادثات تشكّل عاملاً مساعداً لحلّ العقدة الحكومية القائمة.
وربطاً بهذه الزيارة، كانت جهة أوروبية معنية بالشأنين السياسي والاستخباري، تمهّد لها، على مدى أيام، بحركة استطلاعية في بيروت، وعقدت سلسلة لقاءات بعيداً عن الأضواء مع شخصيات سياسيّة لبنانيّة من بينها من هو داعم للحراك، ومن بينها أيضاً من يرسم علامات استفهام حوله. وأمكن لهذه الجهة أن تسجّل جملة من الملاحظات:
- الأولى، خلافاً لكلّ ما تقوله في العلن شخصيات تتبنى الحراك الشعبي بالكامل، حول تشكيل الحكومة، فإنّ هذه الشخصيات تؤكّد في الغرف المغلقة أنّها مع عودة سعد الحريري دون غيره الى رئاسة الحكومة.
- الثانية، ثمة أسماء كثيرة طرحت في الآونة الاخيرة كبدائل للحريري في رئاسة الحكومة، قد يتمتع البعض بخصال او كفاءة معينة، لكنّ احداً منهم ليس الرجل المناسب للحظة السياسية الراهنة في لبنان، التي تتطلب إدراكاً كاملاً لقضاياه المالية والاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية.
ومن هنا فإنّ الموقف الاوروبي بشكل عام يرى انّ الافضل للبنان في هذه المرحلة هو بحكومة يرأسها سعد الحريري. وبحسب المعطيات المتجمعة لدينا، لا نعتقد انّ الحريري سيكون خارج رئاسة الحكومة الجديدة.
- الثالثة، اذا بقي الحريري مصرّاً على رفض العودة الى رئاسة الحكومة، فليس ثمة ما يمنع أن تتشكل حكومة جديدة برئاسة شخصية لا تستفزّ أيّ طرف في لبنان.
- الرابعة، بعد كلّ الذي حصل في لبنان منذ 17 تشرين الاول 2019، فإننا نرى انّ الصيغة الحكومية الافضل للبنان في هذه المرحلة، هي «حكومة متوازنة»، تراعي المتغيرات التي حصلت، وتوحي بالثقة للبنانيين وكذلك للمجتمع الدولي. هذا هو جوهر الموقف الاوروبي الذي يؤكد انّه إن كانت الحكومة متوازنة فالمال موجود، والرغبة الاوروبية في الدعم موجودة، وما يقلق الاوروبيين حالياً هو انحدار سعر صرف الليرة اللبنانية.
ومن هنا فإنّ تشكيل حكومة متوازنة من شأنه أن يدفع الاوروبيين فوراً الى العمل في اتجاه تقديم الدعم اللازم الذي يتصدره بطبيعة الحال وضع مقررات سيدر موضع التنفيذ السريع.
- الخامسة، اوروبا بشكل عام تريد أن تساعد لبنان، ويهمّها الاستقرار والهدوء في هذا البلد، وأن تسلك الحكومة الجديدة طريقاً واضحاً نحو الشفافية والمحاسبة والعمل السريع على تطبيق إصلاحات «سيدر»، التي مع الأسف، فشلت الحكومة السابقة فشلاً ذريعاً في مقاربتها.
- السادسة، مع تشكيل الحكومة المتوازنة، نرى أنّ من الضروري جداً أن يبادر المسؤولون السياسيون الى رفع الغطاء عن الاسماء التي عليها شبهات كبرى، أو عن الفاسدين الذين أساؤوا الى لبنان والى زعاماتهم قبل غيرهم.
- السابعة، نسجّل عتباً شديداً على الرئيس سعد الحريري، نقطة شديدة السلبية عليه أيضاً لانكفائه في هذه الفترة، وعدم متابعة مهامه كرئيس حكومة تصريف أعمال، في الوقت الذي يتطلّب تفاقم الأزمة وما يرافق ذلك من ضغط شديد على العملة الوطنية اللبنانية، حضوره الكامل وان يكون مبادراً للبحث في سبل منع الانحدار ومتابعة ما يمكن متابعته من الشؤون المالية والاقتصادية في لبنان، أكان مع الوزارات المعنية أم مع مصرف لبنان.
- الثامنة، المنطقة مقبلة على حضور اوروبي فاعل اكثر من السابق، فالاميركيون أبلغوا انّ اهتمامهم بالشرق الأدنى الى انحسار، وتركيزهم اليوم منصبّ فقط على منطقة الخليج، ونحن الاوروبيون موجودون في المنطقة قبل الأميركيين، وسنكون موجودين فيها وبفعالية بعدهم. والاوروبيون بشكل عام حالياً بصدد توجّه فاعل تجاه لبنان، والأهم أنّهم ليسوا في صدد الدخول في سياسة صدامية مع «حزب الله»، ولا استهدافه ولا في صدد إثارة الحديث حول السياسة الدفاعية للبنان وسلاح «حزب الله». فهذا الامر ليس مطروحاً في الوقت الراهن.
- التاسعة، لقد قرأنا كأوروبيين الصواريخ الأربعة التي اُطلقت من الجولان على إسرائيل قبل أيام، فيبدو انّها رسالة غير مباشرة من قبل «حزب الله» تفيد بأنّ الضغط علينا ومحاولة حشرنا ستدفعنا الى إشعال الحدود.
- العاشرة، لقد تفاجأنا كيف تأثر اللبنانيون بالكلام الذي أطلقه المسؤول السابق في الخارجية الاميركية جيفري فيلتمان قبل ايام، ومن بين اللبنانيين من بالغ في تقدير هذا الكلام وعلّق عليه أهمية كبرى وكأنّه يعبّر عن رأي الإدارة الاميركية، فمن باب العلم فقط، انّ هذا الرجل لا صفة رسمية له، ويعبّر عن نفسه فقط، وهو خارج دائرة التأثير على القرار الاميركي، وليس من المقرّبين من الإدارة الأميركية الحالية، بل هو أعطى رأيه لا أكثر ولا أقلّ، علماً أنّه جاء بكلام لا يخدم حراك اللبنانيين، وقدّم هدية ثمينة لـ«حزب الله» وحلفائه عندما أوحى بكلامه أنّ الإدارة الأميركية تتدخّل في الحراك الشعبي في لبنان.