عندما أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو تأييده الانتفاضة، طالبه كثيرون من نشطائها بعدم إقحام الولايات المتحدة في الشأن اللبناني. وعندما أرسل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون موفده كريستوف فارنو في وساطة جديدة، عبَّروا عن اعتراضهم على التدخُّل الفرنسي، ولو للمساعدة.
ولكن، ألا تُعتَبَر هذه المواقف طوباوية جداً في لبنان؟ وهل الناس في الشارع يقاتلون لإسقاط تركيبة سلطوية معزولة عن أي دعم خارجي، أم إنّها تستقوي بلاعبين خارجيين أقوياء، وأبرزهم إيران؟
تقليدياً، السلطة في لبنان تقوم على توازن «الوكلاء» لقوى خارجية عدة، ولاسيما التوازن بين السعودية وإيران إقليمياً، وبين الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا دولياً. ولكن، منذ اندلاع الحرب في سوريا، اختلّ هذا التوازن بقوة لمصلحة النفوذ الإيراني.
المحاولة الأولى لاستعادة التوازن حاول السعوديون تنفيذها في خريف 2017 باستقالة الرئيس سعد الحريري. لكن الفرنسيين تدخّلوا آنذاك لمصلحة حليفهم رئيس الحكومة، وأقنعوا السعوديين والأميركيين بأنّ «الخصوصية اللبنانية» تستدعي مراعاة واقع «حزب الله» داخل السلطة.
يومذاك، أوحى الحريري أنّه، عندما يعود إلى السراي، سيبدّل في نهج الحكم ويحقق التوازن المطلوب، لكنه كان يعرف أنّه لن يفعل. وهذا ما استثار السعوديين والأميركيين على السواء.
وخلال العامين الفائتين تبلّغ الرجل عدداً هائلاً من الرسائل والإشارات الخارجية تدعوه إلى التزام وعوده، بل تلقّى التحذيرات من أنّ لبنان بأسره سيكون ضحية للعقوبات، إذا استمر خاضعاً لنفوذ «حزب الله». لكن الحريري لم يتراجع. وتبلَّغ حلفاء «الحزب»، وتحديداً «التيار الوطني الحرّ»، أنّ العقوبات ستشملهم أيضاً، فلم يبدِّلوا في نهجهم.
واليوم، هناك حصار مالي وسياسي وديبلوماسي عنيف يتعرَّض له لبنان، عربياً وأميركياً، بل إنّ الأميركيين أجبروا فرنسا على حجب المساعدات المقرَّرة في «سيدر» إلى أن ينصاع لبنان لمتطلبات الإصلاح والشفافية.
ما لا يقوله أحدٌ صراحةً هو أنّ للإصلاح استهدافات استراتيجية أيضاً. فاعتماد الشفافية وإعادة الاعتبار إلى المؤسسات من شأنهما أن يقلِّصا هامش «الحزب» داخل الدولة ويعيدا التوازن السياسي إلى السلطة. ويدرك الإيرانيون هذا الأمر. ولذلك بقي هاجسهم عدم المسّ بأي من أوراق القوة التي يتمتع بها «الحزب» داخل المؤسسات.
ولهذا السبب لا يريد الإيرانيون تقديم أي تنازل للانتفاضة، لا في الشارع ولا في ملفات الفساد ولا في الحكومة الجديدة. فما يعنيهم من أي حكومة هو أن يبقى لهم القرار. وهذا يتحقق باستمرار الحكومة الحالية أو باستنساخها.
إذاً، المواجهة تدْخُل مرحلةً أكثر إيلاماً: الأميركيون بدأوا يهزّون العصا للسلطة اللبنانية كلها، وليس فقط لـ»حزب الله». والحصار المصرفي والمالي الذي يتعرّض له لبنان هو الأداة الأساسية. والخليجيون العرب يلاقونهم بقطع «حنفية» الدعم التقليدية نهائياً. ويراهن الأميركيون على أنّ الانتفاضة اللبنانية ستتكفَّل بتحقيق التغيير من الداخل.
عند هذا الرهان يقع الخلاف بين الأميركيين والفرنسيين. فالموفد الفرنسي كريستوف فارنو حاول في زيارته بيروت أن يطرح صِيَغاً وسطى تنهي الانتفاضة وتأخذ بطروحاتها حول الإصلاح، ولكن برعاية حكومة تكنوقراط يرئسها الحريري وتكون القوى السياسية التقليدية راضية عنها أو حتى ممثلَّة فيها، بما في ذلك «حزب الله».
ما هو مطلوب من فارنو أن ينقل الأجواء إلى نظيره الأميركي ديفيد شينكر الذي لاقاه إلى باريس الثلثاء الفائت، والتقاه بمشاركة نظيرتهما البريطانية وحضور راعي مؤتمر «سيدر» بيار دوكان. لكن فارنو اصطدم بتشدُّد شينكر الذي عبَّر عن رفض الإدارة الأميركية أي تنازل لـ«حزب الله» هذه المرّة، تحت عنوان الخصوصية اللبنانية والأمر الواقع.
في رأي الأميركيين، أنّ هذه التجارب لم تؤدِّ حتى اليوم إلّا إلى توسُّع «الحزب» وإفساح المجال له كي يُحكِم سيطرته على المؤسسات والقرار في لبنان. ولذلك، تريد الولايات المتحدة استمرار لبنان تحت وطأة الضغوط المالية الناجمة أساساً عن سوء الإدارة وسيطرة «الحزب» على بعض المرافق. وهي لا تحبِّذ أن يفرج شركاؤها وحلفاؤها عن المساعدات للبنان حالياً.
يخشى الفرنسيون أن يؤدي الضغط إلى انهيار اقتصادي ومالي ونقدي يقود إلى فوضى خطرة تُترجَم سياسياً وأمنياً. ويشاركهم الأميركيون هذه المخاوف. ولا يرغب أحد في بلوغ هذا الوضع.
ولكن، الانهيار كان واقعاً في أي حال، بسبب الفساد لا بسبب الضغوط الأميركية. وعلى العكس، هناك اليوم فرصة للبنان كي يخرج من أزمته المزمنة. ولذلك، يرى الأميركيون أنّ على فرنسا أن تكفّ عن «تدليع» لبنان ليتكلّ على نفسه ويتجاوز مشكلاته. ولا يجدون جدوى في ضخّ الأموال مجدداً إلى لبنان في الأمكنة غير المفيدة.
وأساساً، هناك طروحات بإعادة جدولة المساعدات التي تمّ إقرارها في «سيدر» وفق برنامج يراعي الأولويات الحقيقية، وليس مصالح أهل السلطة ومحاصصاتهم. ولم يعد جائزاً أن تقع المساعدات في أيدي أركان السلطة، وأن يستفيد منها «الحزب» ليحافظ على نفوذه، فيما يشتدُّ الخناق المالي على إيران.
وفي الموازاة، يبدي شينكر استياء من أنّ لبنان استسهل رفض أُطُر التفاوض على حدوده البحرية مع إسرائيل، على رغم أنّ واشنطن بذلت جهوداً ومارست ضغوطاً على إسرائيل في هذا الملف. فكيف يماطل لبنان وهو في أمسّ الحاجة إلى بدء استثمار طاقاته النفطية والخروج من الأزمة؟
لم يقتنع الفرنسيون في هذا اللقاء. ويراهنون على أنّ واشنطن ستضطر إلى التراجع قليلاً، وكذلك إيران، فتتوصلان إلى تسوية. وهنا مشكلة فرنسا. فهي أيضاً لا تريد أن تتمّ الصفقة «من وراء ظهرها»، فتخرج منها فارغة اليدين.
وفيما يضغط الاميركيون على إيران لإنضاج الصفقة التي تناسبهم، يبدو أنّ الإيرانيين لم يشبعوا من المراهنة على تقطيع المراحل… والرؤساء الأميركيين.
وفي الانتظار، أين لبنان في كل هذا؟ وما الثمن المطلوب أن يدفعه في النهاية؟ ولأي هدف؟