التوافق الروسي الإيراني لا يخفي التباين بشأن سبل التعاطي مع الأزمة اللبنانية.
استغربت مصادر دبلوماسية قريبة من وزارة الخارجية الروسية الأنباء التي تحدثت عن وجود تفاهمات بين روسيا وإيران للقضاء على الانتفاضة الجارية في لبنان، ونفت صحة المعلومات واعتبرتها جزءا من البروباغندا الغربية ضد الأداء السياسي الروسي في الشرق الأوسط.
وتخشى موسكو من مآلات الحراك الشعبي المندلع في لبنان منذ 17 أكتوبر على مصالحها في المنطقة.
وقالت المصادر إن موسكو تراقب الوضع في لبنان عن كثب، وهي تدعو إلى الاستقرار في هذا البلد من خلال الإسراع في تشكيل حكومة جديدة تستطيع مواجهة التحديات، لاسيما الاقتصادية منها التي تتهدد هذا البلد.
وذكرت ذات المصادر أن الموقف الذي أعلنه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بشأن تحفظه عل تشكيل حكومة تكنوقراط في لبنان أتى في سياق رؤية روسيا لما هو منطقي ومتسق مع ظروف البلد والسياقات الإقليمية الراهنة، مشددة على أن موسكو ستساند أي شكل حكومي يختاره اللبنانيون وأنها لا تتدخل ولم يسبق لها أن تدخلت في الشؤون الداخلية لهذا البلد.
وقال لافروف خلال منتدى السلام في باريس “بالنسبة إلى لبنان ندعم محاولات الحريري تشكيل الحكومة، وحسب ما أفهم، فإن الفكرة تتمحور حول تشكيل حكومة تكنوقراط، أعتقد أن هذا أمر غير واقعي في لبنان”.
ورأت أوساط سياسية لبنانية في موقف لافروف آنذاك ما يرفد خيارات إيران -من خلال حزب الله- المطالبة بتشكيل حكومة سيادية، وفق تعبير أمين عام الحزب حسن نصرالله. غير أن مصادر موسكو أوضحت أن روسيا تحرص على بقاء لبنان خارج ميادين التنافس بينها وبين الدول الغربية، وأنها ستقاوم في الآن ذاته محاولات واشنطن وحلفائها لجعل لبنان محمية غربية تخضع لأجنداتها.
وكانت تقارير صحافية قد تحدثت عن إبلاغ طهران موسكو بأنها عازمة على الذهاب إلى الخيارات القصوى في لبنان لحماية حزب الله، بما في ذلك استخدام القوى الشاملة ضد الانتفاضة الشعبية المندلعة منذ 17 أكتوبر الماضي. ونقلت هذه التقارير عن مصادر وصفت بالموثوقة هذه المعلومات، فيما رأى محللون أن موسكو قد لا تمانع محاولة حزب الله السيطرة على الأمور لعل في ذلك ما يعيد الاستقرار إلى لبنان بأدوات إيرانية.
ويرى متخصصون في الشؤون الروسية أن موسكو بدأت تنظر إلى لبنان على أنه ضمن حيّزها الاستراتيجي المرتبط آليا بسوريا (مركز نفوذها في الشرق الأوسط). وترى موسكو أن استقرار هذا البلد، أو تحييده على الأقل، ضرورة استراتيجية لإتمام خارطة الطريق التي ترسمها القيادة الروسية بشأن مستقبل التسوية السورية.
ولا يخلو التركيز الروسي على لبنان من أبعاد اقتصادية مرتبطة أساسا بالطاقة، لاسيما موارد الغاز التي تعد بها المنطقة الاقتصادية الخالصة في المياه اللبنانية من ضمن خطط شركات النفط الروسية المتعلقة بسوق الطاقة الجديد في الشرق المتوسط.
ويتطلب ضمان مستقبل الاستثمارات الاقتصادية الروسية في لبنان استثمارا سياسيا في هذا البلد يحفظ مصالح موسكو. ووقع لبنان العام الماضي للمرة الأولى عقوداً مع ثلاث شركات هي “توتال” الفرنسية و”إيني” الإيطالية و”نوفاتيك” الروسية للتنقيب عن النفط والغاز في رقعتين في المياه الإقليمية، فيما أعلنت وزيرة الطاقة والمياه اللبنانية ندى بستاني أن محادثات أخرى تجري مع “غازبروم” و”لوك أويل” الروسيتين. وكان لبنان قد وقع أوائل العام الحالي عقداً أعلن لتشغيل منشآت النفط في طرابلس مع شركة “روسنفت” الروسية لإعادة تطوير وتأهيل هذه المنشآت.
وتقول المصادر الروسية إن تنامي نفوذ واشنطن في لبنان يتناقض مع مبدأ الانسحاب العسكري الأميركي من سوريا ويتعارض مع خطط موسكو لإنتاج تسوية سورية تقوم على أساس ما تحقق حتى الآن وفق عملية أستانة، وبالتناغم مع عملية جنيف التي تشرف عليها الأمم المتحدة. ورأت المصادر أن النجاح في تفعيل اللجنة الدستورية السورية يمثل واجهة العمل الروسي الذي يحظى برضا المجتمع الدولي لإنهاء الصراع في سوريا.
وتنظر موسكو بعين الريبة إلى الاجتماع الذي عقد في باريس الثلاثاء بين مدير الشرق الأوسط في الخارجية الفرنسية السفير كريستوف فارنو (الذي زار بيروت الأسبوع الماضي) والمبعوث الفرنسي لمؤتمر “سيدر” السفير بيير دوكين والمسؤول عن الشرق الأوسط في قصر الرئاسة باتريك دوريل ومساعد وزير الخارجية الأميركي للشرق الأوسط دافيد شينكر ومديرة الشرق الأوسط في الخارجية البريطانية ستيفاني القاق. وعقد هذا الاجتماع لمناقشة الأزمة اللبنانية، ما أثار أسئلة في موسكو حول ما تخطط له هذه العواصم بشأن هذا البلد.
وتستبعد أوساط في بيروت وجود اتفاق روسي إيراني لإجهاض الانتفاضة الشعبية في لبنان، لأن لا مصلحة لموسكو في معاداة شرائح واسعة من المجتمع اللبناني، وتيارات سياسية لبنانية مناصرة ضمنا وعلنا لهذا الحراك، ولأن لا خطط لدى حزب الله حتى الآن لمواجهة الشارع بقوة السلاح على منوال ما جرى في “7 أيار” من عام 2008.
وتقول هذه الأوساط إن حزب الله تراجع عن شيطنة الحراك، خصوصا بعد أن خرجت مدن شيعية محسوبة على “بيئة المقاومة” للمشاركة في هذا الحراك، وأنه لو أراد مواجهة الحراك بالمعنى العسكري الشامل لكان فعل حين اتهم نصرالله الحراك بأنه ممول من سفارات أجنبية وتابع لأجندات خارجية، أو حين شكك المرشد الإيراني علي خامنئي بالحراكين الشعبيين في العراق ولبنان وأوصى “الحريصين على مصلحة العراق ولبنان أن يجعلوا معالجة اضطراب الأمن أولوية لهم”.
وتعتقد موسكو أن المشكلة الحالية في لبنان ليست فقط صراعا بين الشارع والسلطة، بل هي أيضا صراع بين القوى السياسية، وأن اتفاق الطبقة السياسية على تشكيل حكومة “مناسبة” سيخفف من ثقل الحراك الشعبي.