بعد الثورة البيضاء التـي أطاحت عهد الرئيس بشاره الـخوري عام 1952، والتـي قامت ضدّ الفساد الذي تـورّط فيه بعض الـمقرّبيـن منه، وعلى رأسـهم شقيق الرئيس الـملقّب بـ«السلطان سليم»، قام فـي البلاد عهد رئاسيّ جديد برئاسة كميل شـمعون.
عام 1953 صدر أول مرسوم إشتـراعي يتكلّم على الإثراء غيـر الـمشروع، ثـم اكتشف الـمجلس النيابـي آنذاك أنّ هذا القانون لـم يكن كافياً، فأصدر قانوناً عام 1954 نظّـم فيه كيفيّة التصريـح عن الثروة لكي تـجري الرقابة.
منذ ذلك التاريـخ واللبنانيون يسألون لـماذا لا يُـحاسَب الفاسدون ولا يُطبَّق قانون الإثراء غيـر الـمشروع ؟
ألا تكفي 90 مليار دولار ديناً لكي يتـحرّك القضاء ويـُحقّق ويـحاسب كل مسؤول وموظف عمِل فـي القطاع العام ؟ فالـمرتكبون ظاهرون لكل عيـن، أرصدتـهم فـي البنوك، قصورهم، شققهم، سياراتـهم، مـمتلكاتـهم، وطريقة عيشهم تفضحهم وتكشف تورّطهم فـي نـهب أموال الدولة. لـماذا لا يتحرّك القضاء ويسأل هؤلاء: من أين لكم هذا؟
أكثـر من 8 مليارات دولار تـخسرها خزينة الدولة كل سنة من جراء تفاقـم الفساد والرشوة والسمسرات و«تركيب» الـمناقصات والإلتـزامات وعروض الأسعار والفواتيـر الوهـميّة، وكثـرة مزاريب الـهدر والتـهرّب الضريـبـي عبـر الـمرافئ الشرعية وغيـر الشرعية والـمطار.
كــم من وعود سـمعها الناس من أهل السلطة عن مكافـحة الفساد، وانتـهت بـهم إلى الصدمة والإحباط؟ وكم حـملة إنطلقت لـمحاربة الفساد ثـم انتهت بتـبـرئة ساحة الفاسديـن؟ وكـم من أسـماء إتُّـهمَت بالفساد والسرقة، فسُجنت، ثُـم أُخليَ سبيلها وعادت إلى الواجـهة أو «وُضعَت في التصرّف»؟
غريبٌ أمر حكّامنا وسياسيّـيـنا ومسؤوليـنـا، الـجميع يرفعون شعار مكافـحة الفساد، والـجميع يطالبون بوقف الفساد، بكلّ أشكاله، السياسي والإداري والإجتماعي والإقتصادي. أليس من الغريب والـمُخالِف للمنطق أن يطالب الـجميع باستئصال الفساد وهُم يـُمارسونه كل يوم فـي حياتـهم اليومية؟
إذا كان الـجميع يقفون ضدّ الفساد، الرؤساء والوزراء والنواب والـمديرون العامون ورؤساء البلديات والـمسؤولون والـموظفون والـمفتشون والـمُراقبون فـي الـمالية والضمان الإجتـماعي والـجمارك والدوائر العقارية والتـنظيـم الـمدنـي واتـحادات البلديات ودوائر النفوس وقصور العدل والقضاة والضباط... فـمن هم الفاسدون؟
إذا كانت الطبقة السياسية التـي حكمت بلادنا سنيـن طويلة تدعو اليوم إلى مـحاربة الفساد، فَمَن الذي أوصل وطننا إلى هذه الدرجة من الفقر والـمديونية والإهتـراء فـي البنـى التـحتية وإلى الـمراتب الأولـى فـي سلّم الدولة الفاسدة؟ إنّ الفاسديـن والـمُنافِقيـن هـم فـي أغلب الأحيان الأكثـر قدرةً على انتقاد الفساد والدعوة للتطهيـر والـمحاسبة.
فـمسرحية رفع السرّية الـمصرفيّة التـي أقدمَ عليها بعض الـمسؤوليـن لا تنطلي على أحد، إذ هناك عدّة طرق معروفة لإخفاء الأموال غيـر الـمشروعة، كما أنه لا يـُمكن لصاحب الـحساب الـمصرفـي رفع السريّة الـمصرفية عن حساباته لكل الناس، بل عليه تـحديد الأشخاص الـمُفتـرَض كشفها لـهم، فضلاً عن أنّ القانون يُـتـيـح للقضاء اللبنانـي رفع السريّة عن حسابات ناهبـي الـمال من دون الـحاجة الى موافقتـهم، وذلك وفقاً لقانون الإثراء غيـر الـمشروع، وقانون مكافـحة تبـيـيض الأموال وتـمويل الإرهاب، عند ثبوت جرائـم اختلاس أموال عامة أو فساد أو إساءة استعمال السلطة والإثراء غيـر الـمشروع.
نزل الشعب الثائر إلى الشوارع والساحات ليشتكي من وجعه وبؤسه وحرمانه، وليطالب السلطة بالـخبـز والدواء والتعليـم والكهرباء والـمياه والبيئة النظيفة والضمان والأمان وبوقف الـهدر والفساد، وفي الدرجة الأولـى لِيسأل الطبقة السياسية التـي جوّعتهُ وأذلّتـهُ ونـهَبتـهُ، من أيـن لكم هذا ؟ من أيـن لكم هذه الثـروات والـمُمتلكات ؟ ولـماذا تـحمون الفاسديـن وتشاركونـهم فسادهم وسـمسراتـهم ونـهبهم أموال الدولة ؟ فردّوا عليه بكل وقاحة واستكبار من أين أتيتـم بالسندويشات والـمشروبات والأعلام واللافتات ؟
لئلّا تبقى عملية مكافـحة الفساد تدور فـي حلقة مفرغة فيها الكثـيـر من الكلام والقليل من الأفعال، وكي تـتمكّن الدولة من استـرداد أموالـها الـمنهوبة، على مـجلس القضاء الأعلـى تشكيل الـهيئة القضائية العليا الـمستقلّة لـمحاربة الفساد، والبدء فوراً بسؤال كل شخص عمِل أو تعامل مع الدولة عن رقـميـن:
1 - الأموال والـموجودات النقدية والعيـنـيـة قبل تاريـخ العمل فـي القطاع العام أو معه.
2 - الأموال والـموجودات بتاريخ اليوم، ومن أين أتيت بـهذه الثـروة ؟
هكذا فقط يستعيد الشعب أمواله وتُسدِّد الدولة ديونـها.
صدقَ من قال: القضاء هو مقياس الـخيـر فـي الأمم، وهو معيار العظمة فيها، وهو رأس مفاخِر كل أمّة حيّة وراشدة.