«لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بآتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالي الأمان» («رباعيات الخيام» من أحمد رامي)
نصيحة مجانية، وبما أنّ قيادة قوى السلطة العسكرية، حسب خطاب زعيمها الأخير، تفهم في إدارة العسكر والمعارك لأنّ لديها خبرة. هناك نوع من المعارك الميؤوس من كسبها فيدخل فيها مبدأ «الانسحاب التكتيكي».
وهو يستند إلى ما تطبقه الجيوش والقوى العاقلة عندما تتمّ محاصرتها وتهديدها بالفناء الكامل أو السقوط التام، فتبحث عن ثغرة للنفاذ منها وحصر خسائرها، وتأجيل الهزيمة النهائية، أو تفاديها بالكامل من خلال اختيار مواقع جديدة يمكن الدفاع عنها، وتجميع القوات وحشد القوات وإعادة نسج التحالفات...
طبعاً لست أنا في واقع الناصح لمن اتّخذ من العمل العسكري مهنة دائمة له، لكن الإشكالية تأتي عندما يبقى شعار «النصر»، إلهيّاً كان أم دنيوياً، هو الطاغي على الوعي واللاوعي! وهنا تحلّ الكارثة على الجميع، عندما يصبح القرار فيما يشبه حصار «مسعدة» (ماسادة) في التاريخ العبري، يوم صرخ بضع مئات من اليهود «هيهات منّا الذلة»، سنة ٧٣ في وجه الإمبراطور طيتوس، ففنيت مسعدة وفني أهلها.
أعلم أنّ هذا الكلام سيثير حفيظة الكثيرين من الساعين إلى الموت دفاعاً عن شارة نصر يرفعها زعيم ملهم فوق جثث الشهداء. لكن اليوم مشروع الشهيد، أو الضحية لكونه لم يختر الموت، بل فرض عليه، هو وطن بأكمله نزل أبناؤه، بوعي أو بدونه، يصرخون بأعلى أصواتهم أنّهم يريدون إنقاذ بلدهم المريض. وهؤلاء، كما يبدو، تخطّوا حواجز الرهبة والخوف، وإن كانوا يتحاشون الخوض في دور قائد عسكر السلطة أملاً في عدم استثارة جمهوره، لكنهم يعلمون أنّه لا مكان في دولة كاملة لسيادة منقوصة.
لكنّ الإشكال الذي غاب عن مبدأ تطهير الدولة من آلهة الفساد الحجرية، هو كون سلطة السلاح متحالفة مع الفساد بمختلف أشكاله، من سياسي طامح للسلطة، أو تاجر طامح للمال، أو سياسي يجمع بين التجارة والسلطة فيأتي للسلطة ليجمع المزيد من المال، أو تاجر جمع المال فأتى ليشتري السلطة.
كلها أوراق وملفات يحملها تحت عباءته زعيم معسكر السلطة، ليدير بها اللعبة المبنية على مقولة سمعتها مرّات ومرّات بأن: «خذوا المال الفاسد واتركوا لنا السلاح!»
كان هذا في ما مضى، لكن المعادلة اليوم اختلفت بعد شحّ المال النظيف، رغم التغني بوجود ٥٣ مليار برميل نفط في باطن الأرض، وبعد محاصرة المال الوسخ المبيّض، وبالتالي فليس بوعود النصر الصادقة وحده يحيا الإنسان، ففي انتظار النصر المبين، عليه أن يأكل ويشرب ويسكن ويتطبّب ويعلّم أو يزوج أبناءه.
من هنا نرى اليوم الواقع في طلب ضمانات للعسكر الحامي السلطة، لن تتمكن من ضمانها حكومة تكنوقراط لا تأبه، أو لا تفهم بدهاليز هذه المنظومة، وستذهب إلى عدالة معصوبة الأعين من دون مراعاة لأحد، إلّا إذا رضيت هي ذاتها الدخول في اللعبة.
ماذا إذن؟ نصيحة لوجه الله. إقبلوا بانسحاب تكتيكي عنوانه حكومة اختصاصيين غير حزبيين، تقنع الشارع من جهة، فيخرج ويعود الناس إلى حياتهم اليومية، وربما تنجح الحكومة في الإمساك بكرة نار الانهيار وإدارتها، ومن ثمّ إعطاء البلد فرصة أخرى، أو تفشل فيعود النظام القديم ليجدّد نفسه كما فعل في السابق مرات عدّة، فخرج بدم جديد من حروب أهلية واحتلالات وكوارث تغيرت فيها بعض الوجوه، إما بفعل عامل الموت الذي لا ردّ له، أو بقوى جديدة أنتجتها الحروب، فدخلت في شركة النظام القديم وتأقلمت معه وأصبحت جزءاً منه.
المهم هو أنّه في ظل الدستور الحالي، يبقى مجلس النواب بقواه وتركيبته ورئاسته، العين الساهرة والضابطة لأيّ حكومة مهما بالغت في ثوريتها، ويمكنها أن تفرمل اندفاعاتها، أو ضبطها، أو إحراجها فإخراجها.
هناك من يتحدث بأنّ عسكر السلطة، أي المقاومة، يريد ضمانات، وهذه الضمانات غير المحدودة لن تتمكن أيّ حكومة من الوعد بها، ابتداء من العقوبات، وصولاً إلى منظومة الاقتصاد الذي خرج بها زعيم العسكر لينصح كمخرج للإنقاذ، أكّد فيها أنّه لا يفهم به.
الحلّ الوحيد هو حكومة اختصاصيين، وتأجيل النصر ليوم آخر.