اختَبر لبنانُ عبرَ تاريخِه تجاربَ الحربِ والمقاومةِ والتمرّدِ والعصيانِ والتظاهُرِ والفِتنِ الطائفيّة. وها هو يَكتشِفُ، موهولًا، للمرّةِ الأولى مظاهرَ الثورةِ وصراعَ الأجيال.
إنّها مادّةٌ حديثةٌ حُقِنَت بها الشخصيّةُ اللبنانيّةُ والمجتمع. كان الشعبُ يَتوقُ إليها وكانت السلطةُ تخشاها. ولحظةَ يَتواجه الـتَــوْقُ والخَشيةُ يَبدأ الصراع، وساعةَ يَتعبُ الطرفان يَنطلق الحوار. لا نزال في دائرةِ الصراع. تَفاجأت السلطةُ بالحدثِ أكثرَ مما تَفاجأت بالجماهير. الجماهيرُ ستَعود إلى بيوتِها يومًا ما، أما الحدثُ فخرجَ من التاريخِ ولن يَعودَ إليه إلا بعدَ أن يُنهيَ مَهمّتَه. والتاريخُ مَليءٌ بثوراتٍ نَجحت وأخرى فَشِلت.
انتقل الشعبُ اللبنانيُّ من الخنوعِ والإحباطِ واللامبالاةِ إلى الاكتراثِ والتساؤلِ والرفضِ... فالثورة. إنها ثورةُ الفردِ في انتفاضةٍ جماعيّة. كنا نَشكو من غيبوبةِ الشعبِ، فإذا نحن أمامَ غيبوبةِ الحكم. وما لم تَتغيّر منظومةُ الحكمِ سيَتغيّرُ النظام، وإذا تَغيَّرَ النظامُ بمفهومِه الميثاقيِّ سيَتغيّر الكيانُ بمفهومِه الدُستوري.
نحن في مرحلةِ تغييراتٍ تاريخيّة. في مثل هذه المراحلِ تَغييرُ الكياناتِ أسهلُ من تغييرِ موظّفٍ في دائرةٍ حكوميّة. المرحلةُ تفوقُ خطورةً المراحلَ التأسيسيّةَ السالِفة. سابقًا كان هناك رعاةٌ وحماياتٌ وضماناتٌ وضوابطُ وحلفاءُ مَوْثوقون، وكانت هناك مرجِعيّاتٌ قادت المراحل الانتقالية: الكنيسةُ المارونيّةُ قادت بناءَ لبنان الكبير. الطبقةُ السياسيّةُ الوطنيّةُ قادت معركةَ استقلالِ لبنان. الأحزابُ الكبيرةُ بعمالِقتِها قادت الحربَ والمقاومةَ ضد التوطينِ والاحتلال.
المجلسُ النيابيُّ الـمُمَدَّدُ له قاد مفاوضاتِ «اتفاقِ الطائف» بتغطيةِ البطريرك صفير. من يقودُ عمليّةَ التغييرِ الجاريةِ اليوم؟ ومن «يَحمي» خِيارَ اللبنانيّين الدستوريّ؟... الجماهيرُ تثورُ لكنّها لا تقود.
لذلك سادَ الارتباكُ العامُّ على السلطةِ القديمةِ والانتفاضةِ المبتَكَرةِ على حدٍّ سَواء. كلاهما لا يَملِكُ فَهْرسَ الحدَثِ ولا طريقةَ الاستعمالِ. أُنعِمَ على الثورةِ اللبنانيّةِ بخريطةِ تّحرّكٍ إنّما لم يُنعَم عليها بخريطةِ حُكم، بل بأفكارٍ إصلاحيّةٍ كانت مطروحةً وطريحةً مِن قبلِ الانتفاضة. العفويّةُ ليست كلَّ الثورةِ، والشرعيّةُ ليست كلَّ السلطة. هكذا أَخفَقت السلطةُ في التعاطي مع الحدَث (تَعثّرُ التغييرِ الحكوميّ)، فيما بَدَت الانتفاضةُ قادرةً على التكيّفِ واستنفارِ الناس (انتصارُ مُرشِّحِها ملحم خلف في مركزِ نقيبِ المحامّين).
وفي كلِّ الحالات، حدودُ التغيير تَقِف عند عتبةِ الثوابتِ التاريخيّة. لا يجوزُ لأيِّ تحرّكٍ في الشارعِ مهما عَظُم ودامَ أن يُطيحَ خصوصيّةَ نشوءِ دولةِ لبنان وتعدُّديّتِها الحضاريّة. فالتعايشُ العَلمانيُّ بين المواطنين لا يُلغي التعايشَ الميثاقيَّ بين الطوائف، ولا يُلغي النضالاتِ السابقةَ والمقاومةَ اللبنانيّةَ والشهداءَ والتضحيّاتِ. ونحنُ الـمَـلدُوغين مِن السياسةِ الأميركيّةِ، والمتوجِّسين من تحوّلاتِ الشرقِ الأوسطِ ومن طموحاتِ بعضِ المكوّنات اللبنانيّة، تَتعذَّر علينا المغامرةُ بأسسِ الكِيانِ اللبنانيِّ وميثاقِه قبل معرفةِ هُوّيةِ الفريقِ السياسيِّ البديل وخِياراتِه الوطنيّة.
المعطياتُ اليومَ مختلفةٌ عمّا مضى: الانتفاضةُ تَنأى بجماهيرِها عن السياسةِ والميثاقِ والدستورِ والقضايا الخلافيّة. حزبُ الله يَظُنُّ أنّه قادرٌ على توجيهِ الانتفاضةِ نحو مؤتمرٍ تأسيسيّ. سياسِيّو الطوائف يَقودون، بموازاةِ الانتفاضةِ، معاركَ داخلَ طوائِفهم لتثبيتِ قوّتِهم بعضُهم ضِدَّ البعضِ الآخر.
الشعبُ يأمُلُ أنْ يُغيّرَ سلميًّا ما لم يَتغيّر سابقًا عسكريًّا بعد الحروبِ اللبنانيّةِ المتعاقِبة. الدولُ الرابِضةُ وراءَ الأحداثِ يَتقاسـمُها اتّجاهان: توظيفُ الحدثِ الكبيرِ في سبيلِ بناءِ لبنانَ حرٍّ فقط، أو استغلالُه ضِدَّ النفوذِ الإيرانيِّ في لبنانَ والمِنطقةِ؟
جيلُ لبنانَ الجديدِ في مُناخٍ آخر. شاءَ هذا الجيلُ المختلِفُ أن يَمْتَشِقَ مصيرَه، أن يَستعيدَ دولتَه من مُصادِريها، وأن يُوقِفَ مسلسلَ المعاناةِ التي عاشها آباؤه وأجدادُه منذ خمسيناتِ القرنِ الماضي إلى اليوم. قبلَ أن يَنتفضَ، صَـبَـرَ دهرًا، وتَرك وقتًا طويلًا للطبقةِ السياسيّةِ بجميعِ أجيالِها لتَبنيَ دولةً مستقبليّةً لوطنٍ تاريخيّ. توالت على حكمِ الدولةِ طبَقةُ المؤسِّسين وطبَقةُ الاستقلاليّين وطبَقةُ المنتخَبين، ثم طبَقةُ أمراءِ الحرب ونَسلُ هؤلاءِ الأمراءِ وطبقةُ اتفاقِ الطائف، ثم طبقةُ المحتلّين وطبقةُ وكلاءِ المحتلّين وطبقةُ المحرِّرين، وأخيرًا طبقةُ 8 و14 آذار وشَتاتُ التسويةِ الرئاسيّة. لم يَرَ هذا الجيلُ المختلِفُ، الزاهي الألوان، هذه الطبقاتِ تَحمِلُ إلى بلادِه السيادةَ والمناعة، فرصَ العملِ والضمانات، النزاهةَ والحوكمةَ الرشيدة، الحداثةَ والتقدميّةَ، والحلَّ وتقريرَ المصير. كان معظمُ تلك الطبقاتِ، لاسيّما في السنواتِ الثلاثينَ الماضيةِ، وكلاءَ احتلالٍ ووسطاءَ سفرٍ بين الشعبِ اللبنانيِّ وبلدانِ الهِجرة. كانوا تُجّارَ بَشَر.
أتى هذا الجيلُ بمقارَبةٍ مختلِفةٍ للمجتمعِ والوطنِ والدينِ ناتجةٍ عن اعتقادِه بأنَّ وطنـيّـتَـه تَـمُرُّ بعالميّتِه، وعالميّتَه تَـمُرُّ بانتمائِه الحضاريِّ، وانتماءَهُ الحضاريَّ يَـمُرُّ بالتضامنِ الاجتماعيّ. وظنَّ أنَّه بمعالجةِ القضايا الاقتصاديّةِ والاجتماعيّةِ والفكريّةِ يتجاوز الخلافاتِ السياسيّةَ والعقائديّةَ والدستوريّةَ التي تسَبَّبت بالقضايا الاقتصادية...
هذه المقاربةُ، على جِدّيتِها وبراءتِها، متأتّيةٌ من اندماجِ الجيلِ اللبنانيِّ الجديد بالعالمِ المجازيِّ المكوَّنِ من العولمةِ والتواصلِ الاجتماعيِّ والانتشارِ الدوليّ، لكنّها تَفتقرُ إلى اختبارِ الواقعِ الماديِّ والعَلاقاتِ المباشرةِ والمشاكلِ الحسيّةِ والثوابتِ الثقافيّةِ والتاريخيّةِ والديمغرافيّة. فالانتفاضةُ اليومَ كنايةٌ عن طيّارٍ يقود مُجسَّمَ طائرةٍ في مركزِ محاكاةٍ (simulation)، لكن يبقى عليه أن يَعرِفَ تطبيقَ هذه المحاكاةِ في قيادةِ طائرةٍ حقيقيّةٍ في الفضاءِ حيث المواجهةُ مع الطقسِ والرعدِ والعواصفِ والـمُنخَفضاتِ الجويّةِ والجاذبيّةِ والتوازنِ ونسبةِ الارتفاعِ وقُوّةِ الدفع.
الانتفاضةُ في لحظةٍ دقيقة: النقمةُ الشعبيّةُ والدوليّةُ تتعاظمُ على السلطة، وملامحُ التَفسُّخِ تَتسّربُ إلى الشارع. السلطةُ قويّةٌ بداعِميها أكثرَ مِـمّا هي قويّةٌ بشعبِها، بينما الانتفاضةُ قويّةٌ بشعبِها أكثرَ مِـمّا هي قويّةُ بداعِميها. وإذا كانت الانتفاضةُ ستَنتصرُ لأنّها شعبٌ، لا قيمةَ لأيِّ انتصارٍ إذا خَسِرنا لبنان. السلطةُ موَقّتةٌ والثورةُ مرحلةٌ، لكنَّ لبنانَ دائم.