أسقطت الانتفاضة اللبنانية العارمة، كل رهانات القوى السياسية، على أن إثارتها النعرات الطائفية والمذهبية، يمكن أن تحدث انقساماً بين المتظاهرين ينهي الحراك الشعبي، الذي رفع منذ البداية شعار «كلن يعني كلن»، بما يعني الدعوة إلى جرف كل الطاقم السياسي والحزبي الفاسد، الذي أوصل لبنان إلى حافة الانهيار على كل المستويات.
ثم أسقطت الانتفاضة رهان السلطة على وضع الجيش في وجه الشعب، أولاً عندما جاءت رسالة قائد الجيش العماد جوزيف عون باكراً أن «لا قوة لأي جيش إلا بشعبه، ولا قوة لأي شعب إلا بجيشه»، وكذلك عندما توالت صور الجنود وهم يتعاطفون مع المنتفضين الذين يطالبون بحقوق يريدونها هم أيضاً، ويذرف بعضهم الدموع متأثراً أمام الجموع.
ثم أسقطت الانتفاضة رهان الدولة المتهالكة، على أن أسلوب قطع الطرقات سيضع في النهاية المنتفضين في وجه الشعب، ففتحت الانتفاضة كل الطرق وواصلت التظاهر والاعتصامات من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، حتى بعد صراخ المتظاهرين في معاقل «حزب الله» و«حركة أمل» في صور والنبطية وبعلبك والمناطق الشيعية «كلن يعني كلن»، فشلت محاولات ترهيب الناس عبر إرسال جماعات من الحزبيين، اجتاحوا ساحة الاعتصام في وسط بيروت وأحرقوا خيام المعتصمين وأصابوا 11 مواطناً بجروح.
رئيس الحكومة الذي استقال بعد 13 يوماً من بداية الحراك، وتحديداً في 29 من الشهر الماضي، قائلاً إنه يقدم استقالته إلى المنتفضين في الشوارع متبنياً مطالبهم، لم يجد عملياً شريكاً جدياً محاوراً في السلطة والمسؤولية، وبدا واضحاً تماماً أن الدولة في كوكب، والشعب في كوكب آخر، بل ذهبت الأمور في اتجاهات أكّدت عملياً أن هناك استخفافاً بمطالب الشعب وبحركة الانتفاضة، وذلك عندما بدا أن الرئيس ميشال عون لا يعطي الحراك الشعبي وزنه الحقيقي، ويستمهل في البدء بأجراء استشارات نيابية ملزمة لتكليف رئيس جديد تشكيل الحكومة.
الانتفاضة تتسع وتكبر، والغضب الشعبي يتأجج، وبدلاً من الدعوة مثلاً إلى خلوة سياسية جامعة، تضع مدخلاً إلى حل يفضي ولو تدريجاً إلى الاستجابة لمطالب الشعب بتشكيل حكومة انتقالية من الاختصاصيين والخبراء غير الحزبيين، تبدأ بمحاسبة الفاسدين والعمل لاستعادة المليارات المنهوبة، ما أوصل الدين العام إلى ما يتجاوز 100 مليار دولار، بدا أن رئاسة الجمهورية تستمهل المشاورات.
ورغم أن الدستور اللبناني لا يلزم رئيس الجمهورية بمهلة محددة لبدء هذه العملية، قيل للمنتفضين، إن عون يجري مشاورات استباقية بهدف تسهيل التشكيل بعد التكليف، لكن هذه المشاورات لا تحتاج إلى أسبوعين، ولكأننا نشاور دول الأمم المتحدة، والبلاد على كفّ عفريت مالياً، وخصوصاً في ظل أزمة الدولار وتخفيض تصنيف لبنان، والبنزين والصحة، بعد إضراب المستشفيات، التي باتت تعاني نقصاً من المستلزمات الضرورية لمعالجة المرضى.
كان واضحاً أن مشاورات عون تدور في حلقة مفرغة تماماً، فمن جهة يضغط حليفه «حزب الله» لاستنساخ حكومة سياسية على شاكلة الحكومة المستقيلة، بحيث يكون له دور في القرار السياسي، على وقع ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة»، ومن جهة ثانية ملايين المنتفضين في الشارع يرفضون حكومة من هذا النوع، ويدعون إلى تشكيل حكومة من خارج الوسط السياسي.
10 أيام من الجدال البيزنطي بين حكومة تكنوقراطية وأخرى سياسية، والبلد يتأجج مظاهرات وغضباً، ثم طرحت في التداول فكرة التفافية، عندما قيل إن الثنائي الشيعي يقبل بحكومة «تكنوسياسية» مختلطة من سياسيين يرفضهم الشعب طبعاً، وتقنيين من أزلام سيكونون من أتباع السياسيين المرفوضين قطعاً.
الحريري ظل متمسكاً بحكومة من التقنيين الحياديين غير الحزبيين، حتى لو لم يرأسها هو، وكل محاولات الثنائية الشيعية، إضافة إلى عون المتمسك بتوزير صهره جبران باسيل الذي يرفضه المنتفضون، وإقناع الحريري بحكومة «تكنوسياسية» تعيد إنتاج الأزمة، لم تؤدِ إلى نتيجة، رغم قول الرئيس نبيه بري مثلاً إنه قدّم للحريري «لبن العصفور»، وإنه سيعاديه إن لم يقبل، لكن الحريري لم يقبل لأن الشعب لا يقبل، وليس مهتماً بالعصافير، ولا بلبن العصافير، بل بإدخال كل عصافير الفساد الذين أوصلوا لبنان إلى هذا الدرك من الانهيار، إلى السجن والمحاسبة واسترداد المال المنهوب.
منذ اللحظة الأولى، بدا أن عون يتعامل مع الانتفاضة وكأنها مجرد تفصيل، رغم قوله إن مطالبها هي مطالبه، التي مضى 3 أعوام على بداية عهده ولم ينفذ منها شيئاً، وفي المقابل حاول حسن نصر الله تخوين الثورة، واعتبار أنها تخفي مؤامرة أميركية خارجية، وأن هناك من يموّل الانتفاضة، التي مولت وتموّل نفسها من جيوب المتظاهرين الخاوية ومن سيدات المنازل المتحمسات اللواتي يحملن الأكل إلى الساحات.
بدا عون تكراراً وكأنه لا يلتفت إلى المتظاهرين، أولاً عندما قرر أن يخاطب الشعب بمناسبة الذكرى الثالثة لولايته، والناس في مكان آخر، وثانياً عندما نظَّم تياره مظاهرة إلى بعبدا بدت رداً على الانتفاضة العارمة، ورغم قوله إنه لا يريد أن يضع شارعاً في وجه شارع، بدا الأمر معاكساً تماماً، وثالثاً عندما ظهر مساء الثلاثاء في مقابلة تلفزيونية، أشعلت البلاد من أقصاها إلى أقصاها بعدما بدا أنه يتنكر للثورة وأهلها عندما قال: «إذا ما في آدمي في السلطة خلي الشعب كلو يهاجر»، وهو ما ذكّر اللبنانيين بمسرحية الرحابنة «ناطورة المفاتيح» عندما تلعب فيروز دور «زاد الخير» ويهاجر الشعب تاركاً معها مفاتيح البيوت!
فوراً اشتعلت الشوارع وقطعت الطرقات، رغم أن مكتبه الإعلامي حاول تصحيح الكلام ببيان قال فيه إن الرئيس قال: «إذا مش عاجبهم ولا حدا آدمي في السلطة يروحوا يهاجروا»، وهو ما اعتبره الثوار أسوأ، وخصوصاً أنهم عندما يرفعون شعار «كلن يعني كلن»، فذلك يعني أنهم لا يجدون آدمياً، فهل هذا يعني أن عليهم الرحيل؟
تأججت حركة التظاهر وقطع الطرق واستمر إضراب المصارف على خلفية أزمة فقدان الدولار وعدم قدرة المودعين على سحب ما يكفيهم من الدولار، وعادت أزمة المحروقات والمستشفيات، وبدأ نفاد مخزون بعض المواد الغذائية، في بلد يستورد بما قيمته 20 ملياراً من الدولارات، وخصوصاً أن المصارف امتنعت عن فتح الاعتمادات للاستيراد.
فجر الأربعاء كانت البلاد تشتعل غضباً بعد مقتل الشاب الدرزي علاء أبو فخر وهو أمين سر الحزب التقدمي الاشتراكي في الشويفات، والذي اعتبر شهيد الثورة، على حاجز يقطع الطريق في منطقة خلدة، على يد معاون أول في المخابرات يدعى شربل حجيل، وقرعت الأجراس في كل لبنان له، ودعت هيئة تنسيق الثورة إلى الزحف من كل الأراضي اللبنانية إلى بعبدا للمطالبة بإسقاط الرئيس!
وبينما كانت مقابلة عون تلهب البلاد غضباً، سارع الحريري إلى الاتصال بالأستاذ وليد جنبلاط معزياً ومثنياً على موقفه المتعالي في الدعوة إلى الاحتكام إلى الدولة منعاً لانزلاق الوضع إلى ما يريده أعداء الثورة، كما اتصل بقائد الجيش وجوزيف عون وقائد قوى الأمن الداخلي عماد عثمان مشدداً على وجوب اتخاذ الاحتياطات التي تحمي المواطنين وتؤمن مقتضيات السلامة للمتظاهرين. فإلى أين من هنا؟
الأزمة حاسمة ومصيرية، الثورة لن تتراجع في مواجهة حطام دولة وحطام مسؤولين، ولبنان ليس ماليزيا ليتم زج كل الفاسدين في السجن، والمخرج الوحيد حكومة تكنوقراط من غير الحزبيين أو السياسيين، تحاول أن تفتح الباب على قلب صفحة سياسية سوداء دمرت لبنان وأفقرته، وهو ما يحاول «حزب الله» منعه أو تأخيره، ليس خوفاً مما يجري من تطورات حاسمة في العراق ضد إيران فحسب، بل في ضوء صراخ البيئة الشيعية نفسها ضده في عقر داره!
إنه مخاض طويل من الآلام، فهل تدفن الثورة الماضي الفاسد ليولد لبنان الجديد من وجع طويل لشعب يستيقظ، أم تتسلل الفتنة المفبركة طبعاً لإفشال الثورة!