إنّ تماسُك أي فريق سياسي يظهر في الأزمات وليس في الأوقات العادية، وقد أظهرت الوضعية الجديدة التي عرفتها البلاد مع الثورة الشعبية ارتباكاً واسعاً لدى فريق رئيس الجمهورية الذي لم يحسن التعامل معها في أكثر من محطة بارزة:
أولاً، خروج الرئيس ميشال عون المتأخِّر عبر الإعلام لمخاطبة اللبنانيين عموماً والثائرين خصوصاً، وقد أثار هذا التأخير جملة تساؤلات عن خلفياته وأسبابه، كما امتعاض الشعب المنتفض الذي تعامل مع هذا التأخير وكأنه مقصود بالرهان على تعب الناس وانفراطهم، فيما كان باستطاعة عون مخاطبتهم منذ الساعات الأولى في محاولة لاستيعاب غضبهم، خصوصاً انّ عون كان تاريخياً على تماس مع الناس، وبالتالي كان يفترض به أن يلتقط إشارات التململ والغضب ويتعامل معها باحتواء وتبريد وليس بتجاهل ومواجهة.
ثانياً، لا يخفى على أحد أنّ الرئيس عون كان ضد استقالة الرئيس سعد الحريري الذي تعرّض لحملة عونية شعواء بعد استقالته بأنه تخلّى عن رئيس الجمهورية، وتذكيره بأنّ الأخير لم يتخلَ عنه في «أوقات عصيبة مشابهة»، فيما الحريري أعطى العهد و«حزب الله» وقتاً أكثر من كافٍ قبل استقالته التي كان يجب حصولها في الأيام الأولى للثورة. وبالتالي، إنّ رَمي اللوم عليه هو في غير محله، خصوصاً أنّ شارعه منتفض بشكل استثنائي، وليس من مصلحته تحويل غضب الناس ضده.
فتمسّك رئيس الجمهورية بالحكومة المستقيلة ولّد انطباعاً لدى الرأي العام الثائر أنّ عون لا يأخذ الشارع على محمل الجد، وأنه ما زال يراهن على انفراط عقده، ويؤدي دور رأس الحربة في مواجهة مطالبه.
ثالثاً، تظاهرة «التيار الوطني الحر» التي نظّمت إلى القصر الجمهوري لم تكن في محلها لا من قريب ولا من بعيد، كونها أظهرت أنّ الشارع العوني في مكان والشارع اللبناني في مكان آخر، ولم يكن من مصلحة القصر الجمهوري أساساً الظهور بمظهر المتبنّي لتياره السياسي ووضع نفسه في مواجهة مع تيار البلد الشعبي.
رابعاً، وضع رئيس الجمهورية نفسه منذ اللحظة الأولى للثورة في مواجهة مع مطالبها، ولم يكتفِ برفض استقالة الحكومة، إنما أصرّ على حكومة جديدة من الطبيعة نفسها، حيث إنّ الحكومة المستقيلة هي حكومة تكنو-سياسية، فيما كان يفترض بالرئيس عون الذي يملك الحس الشعبي أن يدرك أنّ ما حصل مع ثورة 17 تشرين الأول هو عاصفة شعبية حقيقية وغير مسبوقة، وألا يتوقف عند التقارير التي توضع على طاولته بأنها مؤامرة كونية ضد عهده.
وبالتالي، لو أحسن التعامل معها والتجاوب مع مطالبها لكان نجح في احتواء العاصفة، خصوصاً أنّ غضب الناس لا يأتي من فراغ، بل من وضع مالي واقتصادي كارثي للغاية أوصَل 50% من اللبنانيين إلى حافة الفقر حسب تقرير البنك الدولي، وهذا الوضع بالذات يستدعي مقاربة مختلفة بحكومة مختلفة قادرة على الإنقاذ، فيما أي حكومة تشكّل استمراراً للحكومات السابقة لن تتمكن من الإنقاذ، ولن يقدّم لها الشعب فرصة.
خامساً، كان يفترض بالرئيس عون أن يدرك أنّ خطاباته وخطابات السيد حسن نصرالله لم تتلقفها الناس التي لم تخرج من الشارع، لأنها ما عادت تريد وعوداً وملّت منها، بل تريد أفعالاً، وأن يدرك أيضاً أنّ ردة الفعل الشعبية على التظاهرة العونية إلى بعبدا جاءت قوية وشاملة وفي كل المناطق اللبنانية وأدّت إلى تجديد الثورة.
وبالتالي، كان يفترض به أن يؤجّل مقابلته الإعلامية طالما انه لا يملك جديداً ولا أي مبادرة باتجاه الناس، بل المزيد من الشيء نفسه، وبمعزل عن الجملة التي وَلّعت الشارع والمتصلة بدعوة الناس إلى الهجرة، إلا انّ المضمون السياسي لكلامه جاء نسخة طبق الأصل عن مواقفه السابقة ومواقف «حزب الله» لجهة التمسّك بحكومة تكنو-سياسية، الأمر الذي ألهبَ الشارع مجدداً.
سادساً، إنّ توقيت المقابلة الذي تزامن مع جولة الموفد الفرنسي والمبادرة الفرنسية أدى إلى قطع الطريق على المسعى الفرنسي من خلال الطرق المقطوعة، إن في السياسة بعدما وضع سقف تصوره للحكومة المقبلة، أو على أرض الواقع، فيما كان بالإمكان تأجيل المقابلة التي يبدو أن كل الهدف منها كان توجيه رسالة إلى الحريري مفادها أنّ العهد يتجه الى تأليف حكومة تكنو-سياسية معه ومن دونه. وبالتالي، على الحريري ان يحسم موقفه والطابة في ملعبه في موقف تهويلي يخدم الحريري ولا يحرجه، لأنه لا يريد قيادة سفينة مصيرها الغرق الحتمي.
سابعاً، وهنا النقطة الأهم والتي تتصل بحجز التكليف في القصر الجمهوري تحت عنوان تسريع التأليف تجنّباً لأن «يخلد الرئيس المكلف إلى النوم» كما عبّر عون، وبمعزل عن عدم دستورية خطوة من هذا النوع لأنّ الرئيس المكلف، وفق الدستور، هو من يجري مشاورات التأليف مع القوى السياسية، إلّا انّ عون ومن خلال حجزه التكليف حَمّل نفسه مسؤولية التأخير في التأليف ومسؤولية طبيعة الحكومة الجديدة، أي أنه وضع نفسه عملياً في مواجهة مباشرة ومن دون وسيط مع الناس ومطالبها، فيما كان الأجدر به في ظل عاصفة شعبية من هذا النوع أن يضع مسؤولية التكليف عند الرئيس المكلف، فتنتقل ضغوط الناس من بعبدا إلى السراي الحكومي، ويستطيع في هذه الأثناء أن يؤدي دوره في الموافقة أو عدمها على التشكيلة الحكومية التي يعرضها عليه الرئيس المكلف.
فالأداء السياسي لرئيس الجمهورية وفريقه لم يكن موفقاً على الإطلاق، وهذا دليل الأزمة الكبرى التي يعيشها، ولكنه لو أحسن الأداء لكان باستطاعته ان يخفف من الأضرار التي لحقت شعبياً بصورة العهد، وان يساهم في إنقاذ البلد، لأنّ الأمور لم تصل إلى ما وصلت إليه في 17 تشرين الأول بالصدفة، بل نتيجة تراكمات وسياسات سيئة يتحمّل فريق العهد، وتحديداً باسيل، القسط الأكبر منها من خلال دوره الاستفزازي للقوى السياسية والناس.
فلو التقطَ الرئيس المزاج الشعبي منذ اللحظة الأولى، لكان باستطاعته قيادة فكرة حكومة اختصاصيين مستقلّين وإقناع «حزب الله» بها، وأنه ضمانته في هذه الحكومة، علماً انّ حكومة من هذا النوع قادرة على إنقاذ الوضع المالي واستطراداً إنقاذ عهده، لأنّ ايّ انهيار للبلد سيسجّل في عهده. وتأسيساً على هذا الأداء السيئ أصبح موقع رئاسة الجمهورية في مواجهة مباشرة مع الناس.