"نريد وطنا” بمعنى “نريد استعادة وطننا” ذلك هو الشعار الذي رفعه المحتجّون الشباب في مختلف المدن العراقية الغاضبة وهو يعكس تحولا عميقا في مواجهة الواقع من أجل استخراج حقائقه التاريخية.
عن طريق ذلك الشعار بكل صدقه المؤلم والجارح وبكل ما انطوى عليه من مساءلة محرجة للأجيال السابقة نجح العراقيون في تهميش كل مَن له علاقة بالسنوات التي شهدت تدريجيا ضياع العراق.
ليست الحكومة الحالية معنية وحدها، ولا الطبقة السياسية التي أثرت على حساب القيم الوطنية ولا المؤسسة الدينية التي ركبت قطار السياسة ففقدت إيمانها بالمبادئ السماوية.
ولأن أولئك الشباب لا ينتمون إلى حزب ولا يرفعون شعارا عقائديا ولا يعرفون شيئا عما شهده العراق من نزاعات سياسية قبل أن يروا النور وهم أبرياء من لوثة المؤامرة فإنهم اكتشفوا بيسر أن المتاهة التي يسيرون في دروبها لا يمكن أن تكون وطنا. فما من وطن يمكنه أن يُصاب بكل تلك الأوبئة التي صاروا يصطدمون بمظاهرها العفنة.
فالعراق صار مسرحا للخداع والكذب والاحتيال والخيانة والابتذال والسوقية واللصوصية والانهيار الأخلاقي والتزوير والتضليل والتعتيم على الحقيقة وشراء ذمم الناس وصولا إلى القتل المجاني تحت لافتات طائفية.
لقد تحول العراق إلى مركب يقفز إليه ومنه القراصنة في الوقت الذي يكون مناسبا لهم بعد أن أفرغ متنه من أصحابه الأصليين الذين تم رميهم في قاعه واعتبارهم عبيدا، بحيث صار من الصعب عليهم أن يفرقوا بين شمس آذار التي كانت تشهد تفتح ورد الجوري وبين العاشر من محرم، اليوم الذي يحزن فيه العراقيون لذكرى مقتل الأمام الحسين على أرضهم.
لقد حول العراق كله إلى كربلاء. كما لو أن هناك قوة خفية تريد إلحاق الأذى الأبدي به وبشعبه، ولُف خياله بالسواد لتكون المناحات نشيده الوطني. أما شعبه فقد ترك للفقر والفاقة والجهل والمرض والتيه لينال عقابه.
لم يجرؤ أحد من قبل أن يقول “ذلك ليس وطنا” لقد كانت الوطنية هي الكذبة الأكثر رواجا في سوق الخردة. يتداولها الجميع من غير أن يتأملوا تفاصيلها التي تم تشويهها.
لذلك فقد كان الشك يحوم حول وطنية العراقيين. كانت هناك خيبة تزداد عمقا في قلوب كل مَن أحب العراق. “ذلك قبر العراق” ذلك ما قاله لي أحد الأصدقاء وهو يبكي. أكُتب على العراق أن يكون قبرا كبيرا؟
“أيمكن أن نعيش حياتنا في قبر يسمونه وطنا؟”.
ذلك هو السؤال الذي أجاب عليه شباب العراق الذين صار عليهم أن يواجهوا الأجيال السابقة بالحقيقة. “نريد وطنا” ذلك مطلبهم الذي لا يمكن أن يحققه لهم أحد. لا الحكومة ولا الطبقة السياسية ولا الأمم المتحدة ولا المجتمع الدولي.
تلك هي حكايتهم التي لن يفهم أسرارها أحد.
لقد ضاع العراق لأن أهله لم يحرصوا عليه. ذلك ما يمكن قوله وهو قول لا يخطئ الحقيقة غير أنه يختزلها كثيرا بحيث يخونها. فالعراق تعرض للخيانة وهو ما يحاول الشباب المحتجون أن يتصدوا له بشجاعة غير متوقعة.
هناك خيانة رتبت في ليل كالح لتكون حدثا طبيعيا.
فمنذ عام 2003 صار العراق مرتعا للخونة الذين يعتقدون أن عداءهم للنظام السابق يكفي لأن يكون غطاء على خيانتهم للعراق. غير أن الواقع فضح تلك الخيانة. ذلك لأنها لم تبق من العراق شيئا. فالطبقة السياسية التي استولت على السلطة صنعت عراقا لم يتعرف عليه الشباب الذين تقل أعمارهم عن العشرين باعتباره وطنا.
كانوا غرباء عن ذلك العراق المسخ لذلك كان شعارهم “نريد وطنا”.
حقهم في وطن ليس مطلبا خدميا. ذلك لأنهم ينظرون إلى مصيرهم الذي لا يمكن تأثيثه بالآمال العريضة من غير أن يكون هناك وطن يحتضنه.
هناك وطن اسمه العراق وهو ما ينبغي استعادته.