ثمة أزمة سياسية قوية في إسرائيل لم يسبق أن شهدت مثلها من قبل، ولعل من أهم مظاهرها، استفحال التصارع بين التيارين الديني والعلماني، أو بين الأحزاب الدينية والأحزاب العلمانية وتآكل حزب العمل (الماباي سابقا)، الذي أسس لإقامة إسرائيل (1948)، ولدولة الرفاه والضمانات الاجتماعية، والتي كانت حفزت أو شجعت كثرا من يهود العالم للهجرة إليها، علما أنه كان حصل على 41 مقعدا في انتخابات 1992.
وللدلالة على عمق تلك الأزمة يمكن مراجعة نتائج انتخابات الكنيست الإسرائيلي في الدورتين الـ20 (أبريل) والـ22 (سبتمبر)، لملاحظة الآتي:
أولا، وجود انقسامات حادة في المجتمع الإسرائيلي، بين المتدينين والعلمانيين، وبين اليسار واليمين، وبين الشرقيين والغربيين، في المسائل الداخلية والثقافة والخدمات العامة، وفي علاقة الدين بالدولة ومكانة الأحزاب الدينية وفي المسائل المتعلقة بالسياسة الخارجية والمسألة الفلسطينية، وموضوع التسوية والاستيطان.
ثانيا، مازالت إسرائيل تعاني من الانقسامات الإثنية، إذ عدا عن الانقسام التقليدي المعروف بين جمهور اليهود الشرقيين (السفارديم) واليهود الغربيين (الأشكناز)، فقد بات ثمة معسكر لليهود الروس، أيضا، من القادمين الجدد (في عقد التسعينات) وعددهم حوالي المليون، وهؤلاء لهم حزب كبير ونشط هو “إسرائيل بيتنا”، بزعامة أفيغدور ليبرمان، اليميني القومي العلماني، كما ثمة العرب، أي الفلسطينيين من أهل البلد الأصليين، وهؤلاء يمثّلون خمس سكان إسرائيل (20 بالمئة)، ولهم كتلة نيابية في الكنيست (للأحزاب العربية) تتألف من 13 نائبا، وهم باتوا يشغلون حيّزا مهما في السياسة الإسرائيلية، إنْ بوجودهم داخلها، أو باعتبارهم جزءا من الشعب الفلسطيني.
ثالثا، انحسار الأحزاب التقليدية، بخاصة حزب العمل، لصالح أحزاب أو تجمّعات جديدة، كحزب “أزرق ـ أبيض” مثلا. أما حزب ليكود فقد بات يواجه تحديا كبيرا، للحفاظ على بقائه، أو قوته، سواء بسبب طول الفترة التي تزعمه فيها بنيامين نتنياهو، أو بسبب نشوء حزب “أزرق ـ ابيض” (حزب الجنرالات)، أو بحكم تحديه من أحزاب “قومية” متطرّفة على يمينه، مثل حزب يميناه وحزب إسرائيل بيتنا.
رابعا، أضحت الأحزاب الصغيرة هي التي تتحكم بتوازنات الكنيست، وبالتشريعات، وبتشكيل الحكومة، إذ أن حزب “إسرائيل بيتنا”، لليهود الروس من القادمين الجدد، ولديه ثمانية مقاعد فقط في الكنيست، هو الذي فكك الائتلاف الحكومي (أواخر العام الماضي) واضطر نتنياهو إلى الذهاب نحو تنظيم انتخابات مبكّرة للكنيست (الـ21) وهي التي جرت في أبريل الماضي، وهو الذي اضطر إسرائيل للذهاب نحو انتخابات ثانية، تلك التي جرت في سبتمبر الماضي، وهو أيضا الذي سيضطرها إلى الذهاب إلى انتخابات ثالثة في العام القادم ربما.
تتركز الأزمة السياسية الحاصلة في إسرائيل أساسا في الخلاف بين المتدينين والعلمانيين، أو بين الطابع الديني لدولة وطابعها العلماني، كما بين الأحزاب الدينية المتطرّفة (“شاس” للشرقيين، و”يهوديت هاتوراه” للغربيين) من جهة، والأحزاب العلمانية المتطرّفة (“إسرائيل بيتنا” لليهود الروس من القادمين الجدد) من الجهة المقابلة.
ثمة استنتاجات كثيرة من وراء ذلك، منها أن إسرائيل باتت تعيش تناقضاتها الخاصة. بمعنى أن تلك الدولة، التي طالما تعمّدت طبقتها السياسية إعلاء شأن الصراع الوجودي لإسرائيل مع جوارها العربي، باتت من دون هذه المعزوفة، أي مع انحسار ذلك الصراع، غير قادرة على طمس تلك التناقضات، وهو ما بات تتوضح ملامحه في هذه الفترة، في الصراع بين العلمانيين والمتدينين، وفي سعي كل مكوّن من مكوّنات المجتمع الإسرائيلي إلى التعبير عن ذاته، أو عن هويته الخاصة.
ثمة ملاحظتان هنا، يفترض إدراكهما جيدا، الأولى، وهي أن إسرائيل، بفضل نظامها السياسي، وطريقة إدارتها لمجتمعها، قادرة على التخفيف من التناقضات الكامنة فيها. والثانية، أن العالم العربي في صراعه مع إسرائيل غير قادر على الاستثمار في تناقضاتها تلك، وذلك بسبب المشكلات أو التناقضات التي تعتور أوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبسبب اختلاف أطرافه وتضارب سياساتها.
على أي حال فإن الأسابيع القليلة القادمة ستكشف لنا طريقة حلّ إسرائيل للاستعصاء السياسي القائم، وما إذا كانت ستذهب إلى انتخابات جديدة، أو إلى حكومة “وحدة وطنية”.